.. إنهم قادمون .. شئنا أم أبينا ..!

TT

في كل مرة ازور فيها الهند، يطلب مني الهنود مقارنة بلادهم بالصين. وكان ردي دائما في الآونة الاخير: اذا كانت كل من الهند والصين طريقا سريعا، فإن الطريق الصيني السريع سيتكون من 6 حارات، مرصوفة، ولكن يتوسطه حاجز هائل للسرعة عليه عبارة «إصلاحات سياسية.. كيف ننتقل من الشيوعية الى مجتمع اكثر انفتاحا؟ عندما يرتطم 1.3 مليار نسمة ينطلقون بسرعة 80 ميلا في الساعة، بحاجز سرعة، فلا بد من حدوث واحد من امرين: اما طيران السيارة في الهواء وارتطامها بالارض وتماسك جميع الاجزاء واستمرارها في الحركة ـ او انها ستطير في الهواء وترتطم بالارض وتسقط كل الاطارات. وهو ما سيحدث مع الصين». اما الهند، بالمقارنة فهي مثل طريق سريع تنتشر فيه المطبات، بلا ارصفة، ونصف اعمدة الانارة محطمة. ولكن يبدو الطريق، من على بعد، مصفوفا وممهدا، وهذا البلد اذا سيصبح دينامو إذا ما رغب. والسؤال هو: هل هذا الطريق المرصوف سراب ام شيء حقيقي.

وفي النظرة الاولى، عند عودتي الى بنغالور، وادي السيلكون في الهند، كان الطريق الممهد السلس يبدو سرابا. فالبنية الاساسية هنا لا تزال في حالة فوضى. ولكن المظاهر خداعة، فخلف الفوضى تدخل بنغالور مرحلة ناضجة جديدة كمركز للتقنية، ببداية انتاج اول منتجاتها التكنولوجية، ودخول مرحلة الابحاث وتشكيل شركات الاستثمار.

ويقول ناندان نيكاني الرئيس التنفيذي لشركة انفوسيس :«ان النظام الايكولوجي للابداع اخذ في التبلور هنا». ولعدة سنوات ظلت المجموعات الاستثمارية التي تمول شركات في الولايات المتحدة، تصر على ضرورة اجراء عمليات الابحاث والتطوير في الهند. ولكن الان بدأت الشركات الغربية في الحضور الى بنغالور بفكرة جديدة، تطالب بعدها من شركات مثل انفوسيس ووايبرو او تاتا، وهي شركات التكنولوجيا الاساسية في الهند، بإجراء الابحاث والتطوير وإنتاج الفكرة بأكملها. وأضاف: «ننتقل من عملية انتاج جزء من العمل الى انتاج المنتج بأكمله، لتكتمل عملية الابداع عبر شركات هنا. ويعني كل ذلك ان العملية الابداعية ستتم بسرعة وبتكلفة اقل، مع مزيد من التعاون العالمي».

والى ذلك أوضح احد المسؤولين في شركة وايبرو قائلا: «أنتقل من حل مشكلتي الى خدمة عملي الى معرفة عملي الى ان تصبح انت عملي». ومن هنا يصبح ما سيتبقى للشركة الغربية هو «بلورة الفكرة»، أي المفهوم الاصلي وتصميم المنتج الرئيسي (وهو امر مهم) ثم التسويق والبيع.

وأفضل دليل على ذلك هو هذا الوضع الجديد لبنغالور الذي وصلت معه أعداد من الشركات الاجنبية ـ غير الهندية ـ للعمل. وقد افتتح بي اناندان، وهو اميركي من اصل هندي، عملا في شركة مايكروسوفت لمدة 28 سنة في ريدمونت بولاية واشنطن، مركز مايكروسوفت للابحاث في بنغالور تاليا لمركز الابحاث في ريدمونت وكامبريدج وبكين. ويقول اناندان «يوجد لدي موظفان غير هنديين هنا، واحد ياباني والاخر اميركي، ويمكنهما العمل في أي مكان في العالم». واضاف انه عندما حصل على درجته الجامعية في الهندسة قبل 28 سنة، كانت المنافسة كلها هي الحصول على عمل في الخارج ، اما الان فإن اكثر المنافسات حدة هي الحصول على عمل في مجال تقنية المعلومات في الهند، ومن هنا لم يعد السؤال هو هل سأبقى هنا، ولكنه يصبح هل اجد فرصتي بالبقاء هنا؟». وفي العام الماضي، تلقت شركة انفوسيس 9600 طلب من الخارج بما في ذلك الصين وفرنسا والمانيا للتدريب، وقبل مائة طلب فقط.

من جانبي سألت واحدة من هؤلاء المتدربين اسمها فيكي تشين ، وهي طالبة اميركية من اصل صيني تدرس في مجال الاعمال في كلية كليرمونت ، لماذا حضرت الى هنا؟ فقالت :«كل الاعمال تنتقل للهند، ولا ارى سببا في عدم متابعة تلك الاعمال. اذا كان ذلك هو مركز الجاذبية، فيجب ان تذهب الى هناك، حيث ستصبح اكثر قيمة من ناحية العمل».

والامر اللافت للانتباه هو كيف تستفيد الشركات الهندية من خبرات تعلمتها من عمليات نقل الوظائف للهند ، واستخدامها لتطوير منتجات رخيصة للسوق الهندي بأجوره الرخيصة، مثل تأمين صحي بعشرة دولارات في السنة ، وسيارة سعرها 2000 دولار، وكومبيوتر قيمته 200 دولار ، وهواتف محمولة رخيصة للغاية، وشركة طيران تبيع تذكرة سفر ذهابا بسعر 75 دولار لرحلة بين بنغالور ودلهي تستغرق 3 ساعات، وتبيع التذاكر من اكشاك انترنت في محطات البنزين. وتعلم الشركات الهندية انه اذا كان في امكانها تحقيق ارباح بإنتاج تكنولوجية رخيصة الثمن للهنود الفقراء، فإن ذلك يمنحهم منصة للانطلاق بمنتجاتهم عالميا. (تخيل امكانيات الارباح اذا ما عملوا في الغرب) ، وللعلم فالصين تقوم بنفس الشيء.

ومن هنا فقد فهمت الان ، لماذا طار رئيس وزراء الصين وين جياباو خلال زيارته للهند مباشرة الى بنغالور قادما من بكين ، ولم يذهب مباشرة للعاصمة نيودلهي، كما تفعل الشخصيات السياسية عادة، وذلك من أجل القيام بجولة تكنولوجية ثم الذهاب الى العاصمة لاحقا ، فيما لم يزر رئيس ولا نائب رئيس اميركي بنغالور بعد.

* خدمة «نيويورك تايمز»