تأملات على هامش 5 يونيو

TT

كان الخامس من يونيو 1967 نهاية عالم... ولكنه لم يكن نهاية العالم ولا نهاية التاريخ كما صورت سكرة الغرور لبعض الاسرائيليين، أو عمق الكراهية والتشفي لدى البعض الآخرين.

كان بالعكس بداية تعمقت فيها إرادة التغيير لدى الشعب، والتقت بإدراك القائد أن أبعاداً جديدة يجب أن تضاف إلى إرادة التغيير التي رفع رايتها وراءه زملاؤه عندما قادوا ثورة 1952، وهذه الإرادة للتغيير أقوى وأعمق وأوسع، سارت منذ ذلك اليوم فحققت انجازات وتعرضت لنكسات وعرفت اخفاقات وتراجعات كبيرة وصغيرة، طويلة وقصيرة، ولكنها أبداً لم تفقد الاتجاه الذي رسمته بوصلة الواقع، الذي جمع بين العظيم والمرير، وبين الأمل المتحقق والأمل الجريح، وذلك رغم تغير الزعامات، لأن مصر هي الأبقى وشعب مصر هو الأقوى، والتاريخ والجغرافيا هما المعلم الذي لا يمكن تجاوز علمه وحكمته.

وقد بقيت مصر منذ ذلك اليوم الحزين مدافعة عن حقها حتى في أحلك الظروف، منذ معركة رأس العش وإغراق المدمرة إيلات حتى حرب أكتوبر المجيدة.

وقد تصور البعض أن هناك انقطاعاً بين عهدي عبد الناصر والسادات، لأن الأسلوب تغير وبعض التوجهات تباينت في ظاهرها وإن لم يكن في جوهرها، ولعلي أضرب بعض الأمثلة على ذلك:

كان هدف العهدين تطبيق ما ورد في أهداف الثورة من إقامة نظام ديموقراطي سليم، واختارا القطيعة التامة مع ما سبق ـ وهو تاريخ كان يمكن أن يكون طريقاً إلى المستقبل ـ ونظراً لشخصية عبد الناصر فقد ملأت المسرح السياسي كله، بحيث طغى دور الشعب المساند والمؤيد على دور الشعب المشارك، ولذلك لم تنجح الثورة في اقامة المؤسسات التي تصلح لتكون الجسر المطلوب نحو الديموقراطية، ولكن ليس هناك شك في أن الاتجاه العام كان اتجاهاً متفقاً مع ارادة الشعب ورغبته في تحقيق الحرية والاستقلال والتنمية. ولعلنا نظلم التاريخ لو نسينا أن السائد في ذلك الوقت في أنحاء كثيرة من العالم، كان تعريفاً للحرية مختلفاً عن مجرد الحرية السياسية، وكان تعريف التنمية أوسع من مجرد زيادة قدرة الدولة على الانتاج، بل ارتبطت به اعتبارات العدالة الاجتماعية حتى إذا كان ذلك خصماً من نظريات التنمية التقليدية. وجاء السادات في زمن مختلف وظروف أخرى، فسلك نحو التنمية مسالك ارتآها الأكثرون استجابة للهدف الذي ظل ثابتاً. وعلى أرض مصر شواهد على التواصل رغم دعوة البعض إلى هدمها وصلت إلى درجة الجنون، مثل من طالب ـ باسم الحفاظ على الآثار فيما يبدو ـ بهدم السد العالي، فجاءه الرد مفحماً من وزير الري ولو لم يكن رد لرد الشعب المصري كله.

كانت هناك باستمرار أولوية لمصلحة مصر، اقترنت بقراءة صحيحة بأن تلك المصلحة ترتبط بالعالم العربي واستقلاله وأمنه، حتى يكون ظهيراً لمصر ومصر ظهيراً له. واتصالاً بذلك كان الموقف المصري الثابت من دعم القضية الفلسطينية والوقوف مع الشعب الشقيق لكي يحقق حقه وأمله في بناء دولته المستقلة على أرضه. وقد خاضت مصر حروباً ومعارك في هذا الشأن كانت أهدافها الأمن القومي المصري بقدر ما كانت الأمن القومي العربي.

ولعلي في هذا المجال أشهد بأن الرئيس السادات في كامب دافيد وفي إقامة السلام مع اسرائيل، لم يكن يبحث عن حل منفرد، بل كان يؤمن أن تحرير أي جزء من الأرض العربية، هو تدعيم للموقف العربي عامة وإرساء لقواعد عامة تطبق على جميع الجبهات، وأن مصر التي حررت أراضيها بالسياسة مكملة لحرب مظفرة ونصر عظيم، هي الأقدر بقوتها ونفوذها واتصالاتها على تعبيد الطريق إلى الحل الشامل والعادل. وهذا الفكر جزء ثابت من السياسة المصرية. وقد سمعته بنفسي يؤكد أنه سيقيم دولة فلسطينية وسيحرر القدس، ولعله من الطريف أن أذكر أن شخصية مصرية طلبت من السادات في ذلك الحين أن يعين حاكماً للقدس.

صحيح أنه من المؤسف أن حدثت حينئذ خلافات عربية عنيفة، لأسباب كان يمكن تجنبها لولا سوء نوايا البعض وعدم الشرح الكافي للمواقف. ولكن يبقى أن مصر التي استردت أرضها أثبتت وما زالت تثبت في ظروف كثيرة وصعبة أنها أصبحت بذلك الأقدر على الدفاع عن حقوقها وحقوق أشقائها. وأشهد أنه لولا أن كامب دافيد جعلت بيجن يتصور أنها مقايضة بين سيناء وبقية الأراضي العربية، لما رضي بالانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة، بينما كان الرئيس السادات يرى ـ كما ذكرت ـ أن استخدام النصر المبين في تحرير سيناء بالسياسة، هو الخطوة الأولى نحو استرداد كل الأراضي المحتلة في 1967.

وهذه النقطة تعيدني إلى السياق الأصلي للحديث، وهو أن أهداف مصر ظلت ثابتة وهي تحقيق العدل وإعمال القانون واحترام الشرعية، وبالتالي ضمان أمن وسلام جميع الأفراد وجميع الشعوب، وعلى الجانب الآخر فإن تاريخ اسرائيل يوضح أنها بصفة عامة ترمي إلى التوسع وإلى الاحتفاظ بما تستولي عليه بالمخالفة لكل القوانين، وإلى منع الشعب الفلسطيني من التمتع بحقوقه الطبيعية في حياة حرة آمنة مستقرة في وطن مستقل. ولذلك فإننا نرى اسرائيل، وخاصة تحت رئاسة شارون، تلف وتدور وتناور ـ مستندة إلى ضمان مساندة أميركية لظلمها ـ، حتى لا تنفذ التعهدات التي تدعي من وقت لآخر أنها تقبلها.

وأود هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة التي توضح حقيقة النوايا، ومن ذلك مماطلة اسرائيل في تنفيذ تفاهمات شرم الشيخ تحت ذرائع مصطنعة تعرف هي قبل غيرها زيفها.

وفي نفس الوقت محاولة اغتيال أبو مازن سياسياً، مثلما فعلت مع الرئيس عرفات من قبل، فعزلته وحبسته وحاولت استخدام وسائل الضغط المتاحة لها لتمنع العالم من التعامل معه، إلى أن لجأت (كما يشك البعض استناداً إلى دلائل من أقوال وتهديدات مسؤوليها)، إلى أن دست له السم أو الفيروس الذي أودى به. علماً بأن أبو مازن بدأ منذ تولي الحكم حركة اصلاح شاملة التزاماً بتعهداته، كما أن الدور المصري النشيط ساهم في اقناع كل المنظمات الفلسطينية بإعطاء السلام فرصة بينما استمرت اسرائيل في سياسة الاستفزاز والقتل والتدمير والاجتياح، والتأكيد بأنها ـ اعتماداً على تطمينات أميركية ـ لن تعود إلى حدود 1967، ولن تنسحب من أي جزء من القدس، بل أن اسرائيل عندما تظاهرت بالإفراج عن الأسرى، اختارت منهم متهمين في قضايا جنائية وليس أسرى سياسيين، أو مسجونين محكوم عليهم بمدد أوشكت على الانتهاء، وفي مقابل ذلك اعتقلت مئات جدداً من الفلسطينيين، كما أنها تؤكد اعتزامها تدمير المباني في المستعمرات التي ستجلو عنها، ويشير هذا إلى هواية التدمير، فهي دمرت الميناء والمطار الفلسطينيين، وتدمر منازل الفلسطينيين، والآن تريد أن تترك المستعمرات جرداء كفراء كما فعلت في ياميت، تعبيراً عن الحقد والعقدة الشمشونية أو الماسادية الذين يسيطرون عليها.

وإضافة لذلك أريد أن أنقل عن جريدة معاريف الاسرائيلية ما نشرته عن جريمة ارتكبها الاسرائيليون منذ 3 سنوات وانكشفت مؤخراً، فقد ترتب على عملية مقاومة خارج رام الله وفاة ستة جنود اسرائيليين، وبعدها اتخذ شارون قراراً بالانتقام واسع النطاق، فهاجم الاسرائيليون مركزاً للشركة بين نابلس ورام الله كان الفلسطينيون يقومون فيه بمهامهم العادية وقتلوا في العملية 18 فلسطينياً منهم 15 من رجال الشرطة. وقد شهد بعض المشاركين في تلك العملية الانتقامية ـ وفقاً لرواية الجريدة الاسرائيلية بأمور تستحق التسجيل:

ان الأوامر كانت بتصفية رجال الشرطة.

انه بمجرد صدور أوامر التصفية لم يعد الاسرائيليون ينظرون إلى ضحاياهم كبشر على حد قول أحدهم، ان هذه العملية تمت بناء على تعليمات واضحة ومباشرة، وبالتالي فإن تحقيقاً لم يجر حول هذه المجزرة، وفيما أكتب هذه الكلمات تأتي أخبار محاولة عدد من المتطرفين اليهود اقتحام ساحة الحرم الشريف، وحدوث اشتباكات بينهم وبين المصلين، دون أن تمنعهم القوات الاسرائيلية المحيطة من ذلك، بينما تضع قيوداً صارمة وشروطاً حازمة تمنع مئات من المصلين المسلمين من أداء شعائرهم.

والحديث لم ينته، فقد استدعاه إلى الذاكرة شريط يمتد من 5 يونيو إلى 6 أكتوبر، وإلى اليوم وما يجري على أرض فلسطين. وسوف نعود إليه.