سقوط الدستور الأوروبي .. خذوا عني الخبر اليقين ..!

TT

أعتقد ان الحديث حول ما يجري في اوروبا الغربية يتطلب بالضرورة تناولا يتسم بالوضوح وتسمية الأشياء بمسمياتها، وأقول بداية ان هذه الأحداث باتت تثير الشكوك تدريجيا في الكثير من مفاهيم الليبرالية الاميركية.

فغالبية الأفكار ذات الصلة بالسياسات التي تبناها الليبراليون الاميركيون كانت قد طبقت مسبقا في اوروبا ، مثل نظام الضمان الاجتماعي ، والحماية الكافية للعمال... الخ.

ولكن سكان اوروبا الغربية يعانون في ما يبدو من أزمة ثقة ، فنتائج الانتخابات، في ألمانيا مرورا بفرنسا وهولندا، كشفت النقاب عن ناخبين فقدوا الثقة في قادتهم ، وباتوا يشعرون ايضا بالقلق إزاء تدهور نوعية الحياة والمخاطر المترتبة على المنافسة الاجنبية، في مواجهة الصين والولايات المتحدة ، بل وحتى في مواجهة السباكين البولنديين.

كان الاعتقاد السائد في السابق ، هو ان نوعية الحياة الاوروبية تتناسب مع الأداء الاقتصادي، إلا ان مثل هذه الحجج لم تعد تجدي، لأن التوجهات الديموغرافية لا تسمح باستمرار الأوضاع الحالية. اذ اشارت دراسات وبحوث ديموغرافية الى أن تعداد سكان القارة في تقلص مستمر، وأن نسبة السكان الكبار السن اكبر من نسبة الشباب. هذا هو السياق الذي جاء فيه تصويت الفرنسيين على الدستور الاوروبي المقترح بـ«لا». هذه هي سيكولوجية الركود التي لعبت دورا رئيسيا في صياغة تصورات ومواقف الناخبين. لم يكن رفض الناخبين الاوروبيين موجها الى الدستور في حد ذاته ، بقدر ما كان موجها الى ضيق وقلق واسعين. جاء رفض الدستور من المواطنين الأكثر تعرضا للأخطار في أوساط العمال وسكان الشمال الصناعي. ويمكن القول ان حملة التصويت بـ«لا» وحدت اليمين الفرنسي المتخوف بقيادة جان ماري لوبان ، تماما مثلما جاءت من اليسار المتخوف بقيادة الشيوعيين.

الشعور بالقلق بشأن المستقبل جعل المجموعات في مختلف التوجهات السياسية تجد لنفسها ما تشعر تجاهه بالخوف. فالبنسبة لليسار الاشتراكي ، كان هناك الخوف من تحرير الاقتصاد، اما بالنسبة لأقسام من اليمين، فقد كان هناك الخطر التركي، فيما كان يشعر القوميون بصورة عامة بسيطرة النخبة في بروكسل. يضاف الى هؤلاء آخرون كانوا يشعرون بالقلق إزاء وجود دولة اوروبية كبرى مركزية. ويمكن القول ان هذه المخاوف منتشرة بين أعضاء هذه القطاعات المتباينة، اما القاسم المشترك، فقد تمثل في الخوف نفسه بالإضافة الى الرغبة في التمسك بما لديهم في مواجهة التغيير، وما يعتقدون انه مدعاة للاضطراب والفتنة.

الحقيقة الأساسية تتمثل في ان النموذج الاوروبي بات يترنح بفعل الأمر الواقع ، والمتمثل في ان هناك بلايين الاشخاص الراغبين في العمل بجهد وكد بصورة أكبر مقارنة بالاوروبيين. ومن الواضح ان الاوروبيين يحبون نمط حياتهم ، لكنهم لا يعرفون كيفية المحافظة على استمراره.

والى ذلك فقد ظل الليبراليون الاميركيون خلال العقود الأخيرة ينظرون بمثالية الى النموذج الألماني او السويدي او الاوروبي، إلا ان هذه النماذج لم تعد مرنة على نحو كاف في عالم اليوم. فهي نماذج تشجع الأفراد على التمسك بقوة باستحقاقات لم تعد الدولة قادرة على توفيرها لهم، وبدلا من تبني نظرة متقدمة، باتت هذه النماذج تغذي نوعا من الخوف من المستقبل، وهو خوف باتت تعبر عنه تيارات اليسار واليمين على حد سواء، في صورة هجوم شرس على كل من يقترح اصلاحا جذريا، او على أي مجموعة ـ مثل المهاجرين ـ يمكن ان تغير نسيج الحياة.

هذه هي المشكلة الأساسية لدولة الضمان الاجتماعي، التي لا تمت بصلة الى نجاح او كفاءة أي برنامج فردي. ويبقى القول ان المشروع الليبرالي لحقبة ما بعد الحرب افرز توجها محافظا وخوفا من المرونة الدينامية ، فضلا عن الكثير من القلق تجاه حراسة وحماية ما هو موجود اصلا بدلا ايجاد الجديد.

* خدمة «نيويورك تايمز»