غوانتانامو... قناع واشنطن الذي سقط ..!

TT

بعد أكثر من ثلاث سنوات، لا يزال حوالي 550 سجيناً معتقلاً في كوبا منقطعين عن العالم الخارجي، كان بعضهم دون الـ13 عاماً لدى اعتقاله، من غير أن توجه تهم الى أي منهم، أو تجرى محاكمتهم أو يُسمح لأفراد عائلاتهم ومحاميهم بزيارتهم.

وهؤلاء السجناء ليسوا معتقلين لدى حكومة كوبا التي تنتقدها الولايات المتحدة بشدة لانتهاكها حقوق الإنسان، إنما هم معتقلون في سجون تديرها القوات الأميركية، بناء على أوامر من الرئيس الأميركي ووزير دفاعه اللذين أعلنا أن المعتقلين هم من «المقاتلين الأعداء» ـ وهو مفهوم جديد يجرّد الإنسان من أبسط حقوقه وكرامته.

وتستحق منظمة العفو الدولية التي اتهمت الحكومة الأميركية بإدارة «الغولاغ»، الثناء مرة أخرى لإثارتها قضية هؤلاء السجناء المنسيين، بعدما ساهمت الى جانب منظمات أخرى مثل «هيومن رايتس واتش» والصليب الأحمر، في تنبيه العالم الى الجرائم التي ارتُكبت في حق المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، وما يزيد هذا التنبيه أهمية هو عدم إدراج مصير معتقلي غوانتانامو وسوء معاملتهم وانتهاك حقوقهم على جدول أعمال الأمم المتحدة، خصوصاً أنه بالكاد تُسمع أصوات الذين يشجبون هذا الوضع المنفر أخلاقياً وقانونياً وسياسياً الذي يعيشه هؤلاء السجناء.

ولا شك أن توجيه الانتقاد الى الحكومة الأميركية في شأن هذه المسألة يتطلب شجاعة سياسية، أكبر مما يتطلبه اتخاذ مواقف مشابهة إزاء حكومات أخرى، لا تحظى برضى الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً. ولكن، حتى الآن، لم يصدر عن مكتب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أي بيان يتعلق بالاعتقال غير الشرعي لسجناء الحرب في غوانتانامو، أو بمعاملتهم غير الإنسانية والمذلة التي تنتهك معاهدات جنيف، والتي يُضاف إليها ما يتردد عن أعمال تعذيب يتعرض لها المعتقلون.

وفي المنحى نفسه، عملت الإدارة الأميركية على عدم تجديد ولاية البروفسور شريف بسيوني، المحامي المصري ومهندس المحكمة الجنائية الدولية الذي رُشح في عام 1999 للفوز بجائزة نوبل للسلام، كخبير مستقل في حقوق الإنسان بأفغانستان، تابعا لمفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بحجة أن وضع حقوق الإنسان في البلاد قد تحسن بشكل جذري، مما يسمح برأيها بالاستغناء عن البروفسور بسيوني. بيد أن هذا الأخير اعتبر أنه أُقصي من أجل التعتيم على إساءة معاملة المعتقلين في السجون التي تديرها القوات الأميركية في أفغانستان، وبسبب ما نقله عن احتمال إعادة مائتي سجين من غوانتانامو الى أفغانستان، بصورة سرية، الأمر الذي أثار حفيظة مسؤولي البنتاغون.

ولا شك أن مصير المعتقلين المأساوي في القاعدة البحرية الأميركية بكوبا يتسبب بمجموعة من العواقب وردود الفعل. فمن الجلي أن ثمة انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، سواء كان الفرد مذنباً أم بريئا. يُضاف الى ذلك السخط والغضب الشديد الذي يثيره هذا الوضع، في نفوس الأسرى بالدرجة الأولى، ثم في أذهان عدد كبير من المسلمين الذين يرون في تحقير مسلمين آخرين، دليلاً آخر على أن الحرب القائمة هي حرب بين الولايات المتحدة والإسلام.

وإذا كان مركز الاستجواب في غوانتانامو هو أداة بيد إدارة بوش في حربها على الإرهاب، فان ذلك يُظهر بوضوح فشل صانعي القرار بواشنطن في فهم الأسباب التي تجعل رجالاً ونساء يلجأون الى الإرهاب كحل أخير. كما أن وضع واشنطن مع العالم الإسلامي لن يتحسن، إذا ما استمر الاعتقال التعسفي لمئات من المسلمين، ناهيك مما تردد أخيراً من تدنيس للقرآن الكريم. كما لا يساعد واشنطن إلقاء اللوم باستمرار على صغار الضباط بالمؤسسة العسكرية الأميركية في التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون، خصوصاً أن الأدلة كافة تشير الى أن ثمة سياسة رُسمت وجرى تنفيذها في غوانتانامو وأبو غريب وقاعدة باغرام، للتعامل مع مَن هم في أسوأ الحالات في عداد «مشتبه فيهم».

لقد وضعت الإدارة الأميركية نفسها في موقع صعب بانتهاجها هذه السياسة: فكيف يجب التعامل الآن مع معتقلين في غوانتانامو لا صلة لهم بالعالم الخارجي منذ أكثر من ثلاث سنوات، إذ أن محاكمتهم تتطلب السماح لمحاميهم بالوصول إليهم والقبول بفكرة انطباق القانون عليهم.

إلا أن ذلك بحد ذاته يشكل ورطة أكيدة بالنسبة للادعاء العام. كما أن إطلاق سراحهم سيشكل ضربة قاسية للإدارة الأميركية في علاقاتها العامة على المستويين الدولي والمحلي، إذ سيظهر هذا الإجراء بطلان التهم الموجهة إليهم والتي اعتقلوا على أساسها. وقد ازداد الأمر صعوبة بالنسبة للبيت الأبيض بعد مطالبة السيناتور جوزيف بايدن، الديمقراطي النافذ في السياسة الخارجية الأميركية، بإغلاق قاعدة غوانتانامو، لأنها أصبحت على حد تعبيره «الأداة الرئيسية لتجنيد الإرهابيين حول العالم». وهو ما دعت إليه أيضاً صحيفة «نيويورك تايمز» الواسعة الانتشار. ووصل الأمر الى حد مطالبة الرئيس الأفغاني، حميد كرزاي، بنقل كل الأسرى الأفغان الذين تعتقلهم الولايات المتحدة الى عهدة السلطات الأقغانية.

ويبقى أمام واشنطن مخرج واحد من هذا المأزق، وهو أن تعيد الى كوبا قاعدة غوانتانامو التي تحتلها منذ عام 1898. ولكن ربما تفضل الإدارة الأميركية الإبقاء على سجنها في قاعدة غوانتانامو لتوجيه رسالة قوية الى مَن يهمهم الأمر: احذروا فبإمكاننا أن نرسلكم الى سجننا الاستوائي في غوانتانامو!