أزمة ثقافة وثقافة أزمة!

TT

هناك فرق بين أزمة الثقافة وثقافة الأزمة. أن تكون هناك أزمة للثقافة أو في الثقافة معناها ألا نجد أدباً ولا شعراً ولا فناً، وإنما أشباه ذلك، وتتلفت حولك فلا تجد من يقول، وإذا قال فكلامه ركيك أو كلامه معاد، كأنه طعام أكلوه ومضغوه وبصقوه: نثراً وشعراً ورسماً.

فالكتب لا تقول، والصحف لا تنطق، والشبكات تلهو وتلعب، ولكن لا أحد يستوقفك بصورة أو فن جميل أو بفكرة أو قصة، لا شيء يهزك فتتحرك، وإذا تحركت اتجهت. وإذا اتجهت فإلى هدف، هدف لك، وهدف لكل الناس حولك، هنا فقط تشعر بأنك لست وحدك في هذه الدنيا، حولك وأمامك ووراءك من يمسك مشعلاً يضيء لك، ويضيء بك أيضاً.

فإذا لم تجد شيئاً من ذلك، وخلت الدنيا وتجردت، فلا صوت ولا صورة، فهذه هي الأزمة، أزمة أن تكون أو لا تكون، أزمة أن تكون صوتاً بلا صدى وصورة بلا ألوان وأجساماً بلا ظلال، كأن أحداً قد أعدم الوجود فيك وحولك، فأنت أيضاً لم تعد شيئاً.

أما ثقافة الأزمة فهي أن تصبح قادراً على أن تعبر عن هذا الذي تشعر به، عن الذي تفتقده، عن الذي كان هنا واختفى، ثم إنك ترى أن هذه هي نهاية الدنيا، ولكن تستطيع أنت وآخرون أن تجلعوا هذه النهاية بداية لشيء جديد، طريق جديد، أمل يمشي وراء نجم جديد.

حدث كثيراً أن تأزمت الشعوب وأن ارتفعت إلى مستوى الأزمة وتغلبت عليها، صورتها، رسمتها، نظمتها، فكأن الأزمة حياة جديدة لفكر جديد، لوجع جديد، لهموم جديدة، تماماً مثل «قوس قزح» بألوانه البهيجة، فكلما كان السحاب تحته قاتماً كان أكثر لمعاناً، تماماً كسفينة في بحر، فهي تطفو على الماء ويقاومها الماء وتمضي، مثل طائرة تعلو بالهواء وعلى الهواء.

ولم أجد في تاريخنا لحظة عبثية تدل علينا تماماً، كالتي أصابتنا -في مصر ـ في الستينات، ففي ذلك الوقت وبلا مقدمات انشغلنا بأدب اللامعقول، أو أدب العبث، ترجمناه من الأدب الفرنسي المعاصر وأظهرناه على المسرح، أنا شخصياً ترجمت تسع مسرحيات للأدباء: يونسكو وأداموف وأراباك.. وأستاذنا توفيق الحكيم أبدع مسرحيات: يا طالع الشجرة، والطعام لكل فم، والأيدي الناعمة، وشارك أدباء آخرون في تعميم وتعميق الشعور بالعبث، اللامعني، اللامنطق، ورأينا في مسرحيات يونسكو من يقف على المسرح يحدث نفسه، ومن يحتفل بضيوف لا وجود لهم، ورأينا المسرحية البليغة الحزينة البائسة «في انتظار جودو».

ولكن لماذا؟ لأننا في ذلك الوقت كنا ضائعين ضالين - أضاعتنا السياسة وضللتنا أبواقها، وسرقونا وجردونا من كل أمل في النجاة.

فأزمة الثقافة ألا تكون هناك الثقافة التي نريدها.

وثقافة الأزمة أن تكون هناك الثقافة التي نريدها تعبيراً وتجاوزاً لثقافة لا نريدها!