طريق النضج

TT

من ملامح النضج أن ما كنا نفعله بالأمس لم نعد نفعله اليوم، مساحات المسموح به في سن معينة تضيق أو تتحدد أو تتغير بتقدم العمر، والسير نحو مفهوم النضج مسموح للإنسان في سن مبكرة بالتجاوز أحيانا، والطيش أحيانا، والتطرف أحايين أخرى، ويمكن للمحيطين القبول بهذه التجاوزات منه، على أنه يصل بعد إلى سن النضج، وما ينطبق على الأفراد ينطبق بشكل أو بآخر على النظم والمؤسسات فما كان يصلح للفعل بالأمس لم يعد صالحا اليوم، وما كان مقبولا في الماضي لم يعد مقبولا في الوقت الراهن، فما بالك بالمستقبل؟

مناسبة هذا القول هي تلك الحالة التي تحدثنا عنها مرارا من قبل، تلك الحالة التي تمر بها مصر الآن، حالة اكتشفت فيها القوى السياسية أنها في موقع اختبار لم تكن فيما يبدو مستعدة له، واستغلت فيها قوى كأمنة ظروفا بدت لها كأنها مواتية للتمدد واحتلال مساحات تراءت وكأنها مساحات فراغ يمكنها أن تملأها في إطار حلم قديم ظنت أن تحقيقه بات ممكنا، وبعض التيارات الفكرية والسياسية أعطى لها المناخ السائد دوليا أن هذا الوقت هو وقتها، وأن ما لم تكن تحلم يوما بتحققه بات ممكنا بفضل دعم ما (دولي) يتوقعونه، وقطاع واضح من القوى الحاكمة ظل ظنها أن قوانين الأمس هي قوانين الأبد، بحيث تتمكن دوما من التعامل مع كل الظواهر القديمة المتجددة، الجديدة التي تحاول التبلور بذات الطريقة التي اعتاد النظام ـ أي نظام ـ أن يتعامل بها طوال العقود الماضية، ولم يدرك أولئك أو هؤلاء أن ما كان يصلح للفعل بالأمس لم يعد ممكنا اليوم، وأن مساحات التجاوز التي كان مسموحا بها بالأمس، لم تعد ذات المساحات اليوم، فما بالنا بالغد؟ هذه الحسابات الخاطئة والقراءة غير الدقيقة لمعطيات الواقع لن تؤدي إلا إلى حالة من سوء الفهم وسوء التفاهم الذي قد يؤدي إلى صدامات ليست في صالح أي من هذه الأطراف جميعا.

سبق وأن تحدثت من قبل عن هجرة قوى المجتمع إلى أطرافه وهي تلك الهجرة التي يمكن أن تؤدي إلى تفسخ أوصال المجتمع، وترك منطقة الوسط ـ منطقة أمان المجتمع ـ خالية. ما يحدث الآن مشابه لتلك الهجرة إلى الأطراف، كل الأطراف تتطرف في مواقفها وترفض الالتقاء في منطقة الوسط منطقة الحوار والتفاهم، هذه المنطقة هي فقط التي يمكن من خلالها تأمين المجتمع والمرور به من تلك المرحلة إلى مرحلة يستحقها أبناء هذا المجتمع.

والمشكلة الكبيرة أن كل هذه القوى بعيدة عن النظام الأكبر من الناس الذين يشاهدون ما يجري وهم غير عابئين، ولن يتمكن المجتمع ـ أي مجتمع ـ من استعادة صحته إلا باستعادة هذا القطاع الصامت إلى ساحة الفعل، ولن يكون لأي تلك القوى السياسية أو لخطابها قيمة إلا إذا استطاعت ان تتحدث وتصل إلى هؤلاء من خلال لغة تحترم عقل ومستقبل هذه الأمة.

دعونا نتعامل مع مرحلة النضج بما تستحقه من نضج في الأداء، والطريق إلى هذا هو طريق الحوار الناضج الذي يضع مصالح الأغلبية الذين لا يعنيهم ما يدور الآن في المقام الأول.