بعد ثبوت الجريمة: ما المطلوب من أميركا والكنائس.. ومن المسلمين؟

TT

في أول تعليق على الاساءة الى المصحف في جوانتانامو قلنا: «ينبغي ان تظهر نتائج التحقيق التي نأمل الا يطول امدها والا تشوه او تكتم، لان ذلك ليس في مصلحة الولايات المتحدة. فمن الافضل لأميركا، ترليون مرة ان تعلن الحقيقة وان يتحمل الفاعلون نتيجة ما وقع، لا ان تظل أميركا كلها موضع ريبة واتهام. ذلك ان مثل هذه الامور الدينية البالغة الحساسية والدقة والمهيبة: لا يصلح فيها التورية والغموض والايهام والتلاعب الدبلوماسي».

وعلى الرغم من تعجل وزير الدفاع الأميركي في نفي انباء الاساءة الى القرآن. وعلى الرغم من ان الصحيفة التي نشرت انباء الاساءة ـ بادئ ذي بدء ـ قد كذبت نفسها في اضطراب شديد ومريب، فان التحقيق قد أثبت وقوع جريمة الاساءة الى المصحف الشريف.

ومن الامانة ان نقول: ان الاعتراف بوقوع الاساءة الفاجرة، من خلال اعلان نتائج التحقيق: يدل على عقل وأمانة.

ولكن هل يكفي مجرد الاعتراف والاعلان؟.. لقد كاد تعليق بعض المصادر على هذه النتائج ان يطمسها ويلغي فضيلة العقل والامانة والمصلحة فيها.. وفحوى التعليق غير الذكي: انه قلل من اهمية الموضوع.. وهذا كلام بارد تفوح منه رائحة الاستهتار او رائحة الكسل العقلي والتعبيري. فـ (قلل من أهمية كذا) عبارة اعلامية مستهلكة تقعد بقائلها ـ ولا سيما في قضية كبيرة فاصلة كالتي بين ايدينا ـ: تقعد بقائلها من دون المستوى الجاد المسؤول واللائق.

واذا كان مجرد الاعتراف غير كاف.. فما المطلوب من الولايات المتحدة: تجاه الاساءة الموثقة الى المصحف؟.. وما المطلوب من الاطراف الاخرى: من الكنائس.. ومن المسلمين انفسهم؟

اولا: المطلوب من الولايات المتحدة: اعتذار واضح ورفيع المستوى لمسلمي العالم (بمن فيهم: مسلمو الولايات المتحدة الذين مثلت الاساءة الى المصحف: اساءة مباشرة الى المصدر الاعلى لايمانهم وعقيدتهم وشرائعهم وشعائرهم، نعم.. ان الولايات المتحدة الأميركية ليست مسؤولة كلها عما حدث: من الناحية القانونية الجنائية. فالقاعدة القرآنية العامة في هذا المجال هي: «ولا تزروا وازرة وزر أخرى».. والمعنى: الا يتحمل انسان بريء: مسؤولية قانونية جنائية عن جرم اقترفه انسان آخر.. هذا صحيح.. ولكن الذي حدث انما جرى على ايدي اناس أميركيين لهم صفة رسمية، اذ هم تابعون لوزارة الدفاع الأميركية.. ومن هنا، فان الجهات الرسمية، ورموز الدولة، تتحمل مسؤولية معنوية وأدبية عما جرى: اي تجاه المصحف، وتجاه العالم الاسلامي.

ولا يعد الاعتذار المطلوب: انتقاصا من هيبة الرئيس، ولا من وزن الولايات المتحدة، بل ان الاعتذار ـ بالحق ـ يرفع مكانة المعتذر. ذلك ان هذا النوع من الاعتذارات: دليل حضاري مضيء على: النبل الاخلافي.. وعلى اللباقة الدبلوماسية الرفيعة وغير المجردة.. والمقصور بغير المجردة هو: ان هذه اللباقة اذ تترجم الاقتدار الدبلوماسي من جهة، فانها تنطوي ـ من جهة اخرى ـ على تقدير عالي المسؤولية للمصالح الحيوية التي تربط بين العالم الاسلامي والولايات المتحدة.

ولا ندري: كيف يمكن ان تتحسن (صورة أميركا) في العالم الاسلامي، وهي ملتاثة بهذا الفعل الفظيع الشنيع.. ويلزم ـ هنا ـ: دفع مسألتين مهمتين الى بؤرة الضوء:

أ ـ مسألة: ان صورة الولايات المتحدة السيئة في العالم الاسلامي تشغل تفكير المسؤولين الأميركيين، فهي صورة تؤذي مصالح أميركا، وأمنها القومي، وشخصيتها الحضارية العامة.

ب ـ ومسألة: ان غشاشين مسلمين سيسارعون الى تقديم مشورة الى الادارة الأميركية تقول: لا تكترثوا «!!!!» فمن طبائع المسلمين انهم أمة عاطفية: تنفعل بسرعة وتنسى بسرعة!!.. وهذه مشورة خادعة بلا شك. لان الاساءة طويلة المدى ـ بوجه خاص فيما يتعلق بالقرآن والرسول ـ.. هذا النوع من الاساءات لا ينسى، بل تنطوي عليه النفوس والضمائر فينسى ـ من ثم ـ (ضمائر متراكمة) لنشوء علاقات متوترة متربصة: في هذا الزمن او ذاك.. وليس يخفف او يرفع الاساءة طويلة المدى: الا اعتذار واضح وصادق نبيل.

ان عدوانا على القرآن، ليس كالعدوان على اي شيء آخر:

1 ـ فالقرآن هو كلام الله جل ثناؤه. ولذا فهو كتاب مجيد.. وحكيم.. وعظيم.. وكريم.. وعزيز: عند الله، وعند كل مسلم.

أ ـ «انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم».

ب ـ «ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم».

ج ـ «وانه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد».

2 ـ ان عدوانا على القرآن: يفتح ذرائع واسعة ومروعة لشرور ومخاطر: لا سقف لها تقف عنده:

أ ـ العدوان على المصحف يفتح ذريعة (التوكيد)!! بأن حروب أميركا في العالم الاسلامي، انما هي (حروب دينية).. ونحن قد بادرنا ـ غداة أحداث 11 سبتمبر 2001 ـ الى نفي ان تكون الحرب دينية.. نعم. هناك من يجعل الدين (مطية) لاغراضه السياسية والاستراتيجية المتناقضة مع جوهر الدين، ولكن هذا الاستغلال لن يمنح هذه الاغراض: صفة دينية حقيقية. بيد ان العدوان على القرآن والسكوت على ذلك: يعطي اقواما (مسوغات) يسوغون بها فكرة الحرب الدينية.

ب ـ والعدوان على المصحف يفتح ذريعة: اهانة الكتب المنزلة الاخرى.. ولا شك في ان الاسلام يمنع ذلك، لان من مقاصده: الدعوة الى الايمان بما انزل الله من كتاب والى احترام التوراة والانجيل ولكن حين تفتح ذريعة الشر: ليس هناك ضمان: الا تحدث ردود فعل حمقاء، ولا سيما من الجهلة والعوام.. وبالفعل القبيح وبرد الفعل الموازي والمضاد: تفسد العلاقات بين الأمم.

جـ ـ والعدوان على المصحف يفتح ذريعة: تأجيج نيران العنف والارهاب. فكم من شاب مسلم حزن واغتم وهو يسمع انباء الاساءة الى المصحف؟.. كثيرون هم الذين حزنوا واصابهم الغم.. وهذه الاحزان والغموم لا تزال تعتمل في النفوس حتى تتحول الى (طاقة غضب) متقدة.. وهذه الطاقة تنطوي على استعوال عال يدفعها الى التوحل في مستنقع العنف والارهاب، مع حسبان ان هناك فرقا للتجنيد الارهابي تصطاد ذوي الاستعداد للعنف المجنون.

د ـ والعدوان على المصحف يفتح ذريعة (محاكاة) السفهاء الأميركيين اولئك.. وقد كان.. فمنذ قليل: حاكى نفر من اليهود السفهاء الأميركيين، اذ اقدم هذا النفر اليهودي على الاساءة الى المصحف في أحد السجون التي يسجن فيها فلسطينيون.

فأي سلام.. وأي أمن: يمكن ان يتمتع به العالم، وتنعم به أميركا، في ظل هذا العدوان الأثيم على المصحف: العدوان الذي يفتح ذرائع التوتر العقدي والهيجان الديني؟

ثانيا: المطلوب من الكنائس المسيحية في العالم: سواء كانت كاثوليكية او بروتستانتية او ارثوذكسية.

والحق: اننا نستغرب صمت الكنائس تجاه الاساءة الى المصحف.. فهذه الاساءة: (شأن ديني) يهم الكنائس بصفته هذه، وهو ـ في الوقت نفسه ـ أمر يمس ـ بالسلب ـ نسيج العلاقات بين العالمين: الاسلامي والمسيحي.

لقد كان المفترض: ان تتبادر الكنائس ـ بعد ثبوت الجريمة بخاصة ـ الى موقف شجاع وناقد لما حدث.

كان ينبغي ان تفعل ذلك: ليس من أجلنا نحن المسلمين.

وإنما:

1 ـ من أجل المسيح صلى الله عليه وسلم، الذي مجده (المصحف) ورفع شأنه فقال:

أ ـ «اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين».

ب ـ «فأشارت اليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا. قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا. وجعلني مباركا اينما كنت واوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا. وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا. والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا».

2 ـ من أجل أمه الصديقة البتول الطاهرة: مريم التي رفع القرآن ذكرها، وسجل طهرها وبراءتها وعصمتها مما قذفها به مبغضوها المفترون:

أ ـ «واذكر في الكتاب مريم».

ب ـ «واذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين».

3 ـ من أجل الانجيل العظيم الذي تنزل على عيسى عليه السلام. فقد عظم المصحف: الانجيل تعظيما:

أ ـ «وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور».

ب ـ «وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه».

كان المفترض في الكنائس ورجالها: ان يقفوا موقفا منصفا من حوادث الاساءة الى المصحف، لان من شأن العقلاء: ان يحتفوا بما يمجد كتبهم وانبياءهم وقديساتهم. ولذا فان موقف الصمت لا يزال يثير الاستغراب.

ثالثا: المطلوب من المسلمين.. كنا طالبنا بالتركيز على الجانب الايجابي (تحفيظ القرآن. والتعريف به) بيد ان هذا التركيز لا يعني ـ قط ـ التهوين من اهمية الدفاع عن القرآن، وهو دفاع باشره القرآن نفسه: «وقالوا اساطير الاولين أكتتبها فهي تملى عليه بكرة واصيلا. قل انزله الذي يعلم السر في السماوات والارض انه كان غفورا رحيما».. والدفاع عن القرآن انما يكون بالحجة المتفوقة: «وجاهدهم به جهادا كبيرا» اي جاهدهم بحجة القرآن وبرهانه ـ في ساحة العقل والحوار ـ: لا بالسيف، ولا بالقنبلة ولا بالسيارة المفخخة.