دارفور.. بين المرونة السياسية ومحكمة الجزاء الدولية!

TT

يعيش السودان هذه الايام في سباق مع الزمن لتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية تضم بجانب الحركة الشعبية قوى رئيسية في المعارضة هي التجمع الوطني. وفي ذات المسار تتضافر جهود القوى الدولية والاقليمية لانهاء حرب دارفور عبر الحلول السياسية التي تم الاعداد لحلها بشكل جيد تحت مظلة الاتحاد الافريقي ليتزأمن هذا الاتفاق مع تكوين الحكومة الجديدة.

وبينما يمضي الحراك السياسي قدما بهذه الوتيرة المبشرة، اطلت فجأة على المشهد السياسي محكمة الجزاء الدولية لتعيد خلط الاوراق من جديد وتحدث ربكة وتوترا في الموقف باعلانها الشروع في التحقيق بشكل مباشر في جرائم حرب دارفور بارسال محققين الى المنطقة، توطئة لتقديم المدعي العام للمحكمة تقريرا مفصلا لمجلس الأمن قبل نهاية هذا الشهر.

وعلى الفور ردت الحكومة بلسان رئيس مفاوضاتها مبدية رفضها استقبال محققين من المحكمة واعتبرت الاعلان بانه يرسل اشارات سلبية لحركتي التمرد للاتجاه لعوالم اخرى غير ابوجا محط المفاوضات مما يفسد المناخ الذي هيأه الاتحاد الافريقي ليكون مواتيا لانجاح المفاوضات! وقال وزير الدولة للخارجية في الخرطوم: ان الحكومة ستعمل على احتواء الآثار السالبة للاعلان بتشديد التنسيق مع الاتحاد الافريقي والبلد المضيف نيجيريا، ودول الجوار التي تشارك في الاجتماعات بصفتهم شركاء للضغط على الحركات المسلحة وارغامها على عدم ابداء مواقف متعنتة. وهذا موقف يستحق ان تأخذه الحكومة، ولكنه وحده لا يكفي، فعلى الحكومة السودانية ايضا ان تكون مرنة مع محكمة الجزاء الدولية ولا تناصبها العداء لأن في مناصبتها العداء ما ينعكس سلبا على الموقف الدولي الذي كلفها بهذه المهمة. ولأن اية مواقف لا تتسم بالمرونة تصب في صالح تشدد المتمردين وتعنتهم، وتجعل العوالم الاخرى التي تخشى الحكومة من تطلع المتمردين لها تقف بجانبهم وتشد من أزرهم.

وفي كل الاحوال لا يبدو موقف الحكومة منطقيا اذا رفضت استقبال المحققين لكونها في المبتدأ قبلت قرار مجلس الأمن واستقبلت لجنة تقصي الحقائق التي بعثها مجلس الأمن للمنطقة وفي ضوء تقريرها كلفت محكمة الجزاء الدولية بالامر، ومن هنا لا يبدو الرفض متسقا مع ما كانت قبلت به الحكومة سلفا. كذلك فان الحكومة قد كررت اكثر من مرة القول بانها ترغب في التعاون مع الامم المتحدة وتتحاشى كل ما يجعلها في احتكاك معها. وجاء هذا التأكيد حتى بعد اعلان المدعي العام بدء التحقيق ولهذا ليس هناك ما يدعو لارسال اشارات متناقضة منها ايضا.

وطالما اعلنت الحكومة حرصها على المحافظة بالنسبة للاجواء المهيأة لانجاح المفاوضات فعليها اتباع نهج التعامل مع محكمة الجزاء بقدر وافر من المرونة وعدم استباق الاجراءات بالعداوات التي لا مبرر لها، علما بأن الوصول الى الحلول السياسية في مفاوضات ابوجا حتما سيغير الصورة بمجملها ويفتح آفاقا اوسع وارحب للمصالحات التي قطعت شوطا لا بأس به على المستوى الشعبي والقبلي، وحينئذ قد يرى المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن ليست هناك ضرورة لمحكمة الجزاء الدولي، لأن المادة 16 من لوائح المحكمة تعطي مجلس الأمن الحق في ايقاف الاجراءات في اي وقت يراه، وطالما اجرت الحكومة المحاكمات العادلة وحققت للوئام.

وفي اطار الحديث عن المصالحات التي تمت قبل ايام في دارفور شهدها الامين العام للجامعة العربية وممثل الامين العام للامم المتحدة، عبر ممثل الامين العام عن سروره وقال: ان الايام المقبلة ستشهد مصالحات اكثر وسلاما اكيدا من شأنه ان يعم كل المنطقة، بينما اعتبر عمرو موسى: ان قطار الاعمار قد انطلق في دارفور مؤكدا التعاون الكامل بين الاتحاد الافريقي والجامعة العربية وتعهد بأن تشارك الجامعة العربية بمنظماتها وصناديقها في هذا الاعمار.

وخلال هذه الايام زار السودان ايضا مساعد وكيل وزارة الخارجية الأميركية روبرت زوليك الذي أكد على الدور الأميركي في الدفع باتجاه انجاح مفاوضات السلام في ابوجا وتقديم المزيد من المساعدات للسودان ودعا الى زيارة وفد حكومي لواشنطون للبحث في تطبيع العلاقات، منوها الى رفض الادارة الأميركية الاستجابة الى ضغوط من الكونغرس ضد السودان. وما يمكن استخلاصه من كل هذه التحركات والمواقف يشي بأن السودان في الطريق السليم لتجاوز محنه وازماته وبالتالي ليس من المعقول نسف كل هذه التوجهات والخطوات باتخاذ موقف غير مدروس من محكمة الجزاء الدولية، وهي محكمة حتى الآن لم يصدر منها ما يجعل ردود الحكومة سلبية، ناهيك عن كونها بميزان الربح والخسارة قد تطيح بكل ما تحقق وما هو على وشك التحقيق!

والغريب في الامر ان كبير مدعي محكمة لاهاي السيد مورينو ـ اوكامبو، لا يعتبر ان هناك لائحة بواحد وخمسين متهما كما نقلت احدى الصحف التي ذكرت انه عندما تلقى الملف المحال من مجلس الأمن القى نظرة سريعة على الورقة المتضمنة اسماء المشتبه في ضلوعهم في الجرائم، ثم وضعها في مظروف واعاد غلقه من دون حتى ان يأخذ نسخة من الاسماء الواردة فيه. واشارت الى ان خطوته هذه تعني انه لا يعتبر ان هناك لائحة متهمين وان عليه هو وليس الامم المتحدة، ان يقرر هل هناك ادلة كافية في الملف لتوجيه اتهامات بجرائم حرب. والظاهر انه لا يريد ان يتأثر بالخلاصة التي توصل اليها فريق المنظمة الدولية، هكذا قالت الصحيفة على ذمة مصادرها.

وايا كان الامر، فإن هناك فرصا كبيرة وثمينة امام الحكومة يمكن استثمارها لو تدبرت المواقف بهدوء ودراسة ولعبت كل الاوراق التي يمكن ان تحقق مقاصد السودان من دون الدخول في مواجهات لا تخدمها هي ولا تخدم السودان، ولذلك فإن المطلوب هو الابتعاد عن ردود الفعل المتسرعة والمبنية على قصر نظر مع المضي قدما في كل المسالك المفضية الى السلام والوفاق حتى تتحقق كل المقاصد.