العالم العربي.. هل من طريق للديمقراطية من غير أصوليين؟

TT

ظاهريا يبدو العالم العربي أمام معادلة شبه مستحيلة. فهو من جهة مطالب بدخول العصر الديمقراطي والانتخابات الحرة. وهو من جهة أخرى يخشى ان يؤدي ذلك الى انتصار التيار الاخواني الاصولي الذي لا يؤمن بالديمقراطية، إلا كأداة للوصول الى الحكم ثم احتكاره بعدئذ طبقا للشعار المشهور: صوت واحد، مرة واحدة! وبالتالي فما الحل؟ هذا هو السؤال الذي يقض مضاجع صناع القرار ليس فقط داخل الانظمة المعنية وانما ايضا في باريس ولندن وواشنطن الخ، وقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن قبول الاتحاد الاوروبي لاقامة علاقات مع الجناح المعتدل في الحركة الاصولية. فبعد ثلاثين سنة من هجمة الاصولية على ايران وتركيا والعالم العربي والاسلامي ككل اصبح واضحا لكل ذي عينين ان خط التطرف على طريقة الطالبان وبن لادن غير سالك، بل ومسدود تماما. ولا يمكن لأي عاقل ان يفكر في التعامل معه لأنه قائم على تكفير البشرية كلها تقريبا، كما انه قائم على فهم مرعب واجرامي للدين. وهو نفس الفهم الذي ساد أوروبا اثناء عصور محاكم التفتيش السوداء. ولهذا السبب ابتدأ العقلاء في التيار الاصولي يبتعدون عن هذا الخط العقيم الذي شوه سمعة العرب والمسلمين في شتى انحاء الارض. ولكن الغرب، سواء أكان أوروبيا أم أميركيا، لن يصدقهم قبل ان يدينوه ادانة كاملة وعلى رؤوس الأشهاد. فمن السهل ان أقول بأني معتدل أو وسطي ثم اضمر التطرف أو أتعاطف سريا مع القتلة والمجرمين. وبالتالي فلاعتدال ثمنه: الا وهو الاعتراف بالمكتسبات الايجابية للحداثة التي تعتبر الديمقراطية إحدى ثمارها أو جزءا لا يتجزأ منها. وأول هذه المكتسبات عدم التمييز بين المواطنين على اساس العرق أو اللون أو الطائفة أو المذهب.

فهل تستطيع التنظيمات الاصولية «المعتدلة» ان تقبل بذلك يا ترى؟ ظاهريا يقولون لك ذلك، بل ويتبجحون به. ولكن من يعرف ممارساتهم السابقة وتصريحاتهم النارية وكتاباتهم ومنشوراتهم لا يملك الا ان يشك في صدق نواياهم أو نوايا بعضهم على الاقل. فهي مليئة بالسموم الطائفية وتكفير شرائح واسعة من الشعب والتحريض على القتل والذبح على الهوية، ولكن قيل لنا بأنهم تغيروا وتطوروا. وهذا شيء رائع اذا كان صحيحا، ولكن اطلب البراهين الملموسة على ذلك.

اذ اقول هذا الكلام لا افكر فقط بما فعله الاخوان المسلمون في سورية في الثمانينات من القرن الماضي. أو ما فعلوه في مصر والجزائر في نفس الفترة أو بعدها بقليل. وانما افكر ايضا بما حصل في العالم العربي والاسلامي ككل. افكر بكل اعمال التفجيرات والاغتيالات والمجازر الجماعية التي حصلت هنا أو هناك. وبالتالي فالسؤال المطروح على «المعتدلين» هو التالي: هل يقبلون بتطوير برامج التعليم الديني لكي ننتقل من فقه التكفير الى فقه التفكير، أو من فقه القرون الوسطى الى فقه العصور الحديثة؟ هل يمكن ان يوسعوا عقولهم ويفهموا ان التطور ممكن، بل وضروري، حتى في الشؤون الدينية؟ هذا هو السؤال المطروح على الحركات الاصولية المعاصرة. انه يعني التخلي عن الفقه الطائفي الظلامي الذي لا يزال سائدا منذ مئات السنين، أي منذ عصور الانحطاط في الواقع، وتبني مفهوم آخر للدين. بناء على هذا المعيار ينبغي ان يحصل الفرز بين معتدل ومتطرف، وبين التيار العقلاني والانساني في الحركة الاسلامية والتيار المتزمت أو التشبث بمقولات العصور الوسطى الطائفية والمذهبية، وهي مقولات تتناقض بشكل صارخ مع ابسط مبادئ حقوق الانسان والمواطن.

وهذا ما فعله التيار الليبرالي في المسيحية الاوروبية عندما تخلى عن الكثير من مقولات الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية التي كانت تكفر ابناء المذاهب الاخرى كالبروتستانتيين وتشعل الحروب الأهلية في كل مكان وتدق اسفينا عميقا في صميم الوحدة الوطنية للشعب الفرنسي أو الألماني أو الهولندي، الخ.. ومعلوم ان الكنيسة الكاثوليكية كانت تدعي احتكار الحقيقة المطلقة للمسيحية، تماما مثلما يدعي الاخوان المسلمون في العالم العربي حاليا امتلاك الحقيقة المطلقة للاسلام. وبالتالي فكل من يفهم الاسلام بطريقة مختلفة عنهم أو مضادة لهم يُكفَّر ويدان.

وبما ان أول مبدأ من مبادئ الديمقراطية هو حق الاختلاف فاني لا أفهم كيف يمكن ان يكونوا ديمقراطيين! هل يعني هذا الكلام الدفاع عن الانظمة الحالية أو عن استمراريتها الى الأبد؟ بالطبع لا فمساوئها كبيرة. ولكنه يعني ان لحظة الخلاص لا تزال بعيدة ودرب الآلام لا يزال طويلا. ولن يحصل التحرير الكبير الا بعد انتصار التنوير الديني في الاسلام تماما كما حصل في المجتمعات المتقدمة من أوروبا الغربية الى اميركا الشمالية، وهي عملية سوف تستغرق عدة عقود من السنين. لكن بانتظار ان يحصل ذلك هل نقف مكتوفي الايدي؟ مرة أخرى بالطبع لا. وهنا تبرز ضرورة الحوار بين التيار العلماني والتيار الديني الوسطي من أجل تجنيب الشعب مخاطر الحرب الاهلية وسفك الدماء اذا أمكن. والسؤال الذي كنت دائما اطرحه على نفسي هو التالي: هل يمكن ان يحصل التنوير الديني، أو قل التنوير الفلسفي للدين بدون معركة كسر عظم؟ بمعنى آخر: هل يمكن ان نتحاشى الحروب الاهلية أو الصراعات الدموية ونصل الى شاطئ الأمان بدون ان ندفع الثمن؟ بالطبع كلنا يتمنى ذلك لأن الحروب الاهلية من أبشع أنواع الحروب وأكثرها فتكا بالانسان وتمزيقا للمجتمعات البشرية. ولكن من يراقب مسيرة التاريخ أو يستخلص دروسه وعبره يعرف ان البشر لا يمكن ان يتعلموا الا من «كيسهم» كما يقال. وأقصد بذلك ان كل خطوة يخطوها الشعب الى الامام يُدفع ثمنها دما ودموعا. ولكن بعد ان يدفع ثمنها تصبح راسخة ولا يتراجع عنها. فالشعب الفرنسي لا يمكن ان يتراجع عن حرية الصحافة، أو عن التعددية السياسية والدينية أو عن الفصل بين الكنيسة والدولة لأنه دفع ثمن ذلك باهظا على مدار القرون الثلاثة المنصرمة، وقل الامر ذاته عن الشعب الانجليزي أو الالماني أو بقية الشعوب الاوروبية المتحضرة.

وبالتالي فهناك حل عاجل وحل آجل. الحل العاجل يكمن في تجميع كل ذوي النوايا الطيبة لقواهم من أجل التوصل الى عقد اجتماعي أو سياسي معقول يجنب البلاد شرور الحرب الاهلية دون ان يحل المشكلة جذريا. واما الحل الآجل فهو الذي سيحصل بعد ثلاثين أو اربعين سنة عندما ينتصر فكر آخر لماَّ يرى النور بعد.