الذين قتلوا العراق!

TT

يا ولداه: العراقيون كفروا بالعراق.. تغيرت خريطة الشرق الاوسط.. تغيرت معالم العراق ودول اخرى.. لا الناس هم الناس ولا الانهار ولا الآبار ولا الذي في ايديهم اليوم كان بالامس.. واتخذ كل شيء لون دخان البترول، انه لون النفوس والعيون والايدي وشكل المستقبل. وبأيديهم قطعوا اصابع ايديهم وارجلهم.. ومزقوا جيوبهم.. وصاروا جميعا اعداء للعراق. وليسوا اصدقاء لأحد.. عادت بابل الي بغداد.. وتبلبلت الألسنة والعقول. وانطبقت على بغداد الصورة التي رسمها العراف الفرنسي نوسترادموس عندما قال: دخان كأنه ناطحات للسحاب.. وناطحات للسحاب كأنها انهار وقفت على حيلها.. وجاءتهم سحب.. والسحب وقفت فوق المدينة.. ومن السحب هبط اناس بيض في ايديهم نار وشرار..

او كما وصفهم الشاعر القديم وهو يتحدث عن المستحيلات.. والعراق هو احد مفردات المستحيل:

اذا شاب الغراب اتيت اهلي وصار القار كاللبن الحليب

وصار البر مرتع كل حوت وصار البحر مرتع كل ذيب

وما دام الغراب لا يشيب والحوت لا يرتع في البر والذئب لا يرتع في البحر فلا امل ولا خروج ولا هروب. ان العراق قد انطلق بعضه على بعض: السنة على الشيعة على الاكراد على السوريين على الفلسطينيين على اليهود على الأميركان وبقية الشعوب الاخرى. ضاع الأمن وضاع الامان ومات الامل في أي حل في العراق وفي لبنان وفي سورية وفي فلسطين!

ذهبت تلك الايام التي كنا ننتظر فيها طلوع الشاعر الجواهري والشاعر حافظ جميل... ماذا كانوا يقولون وما اجمل ما قالوا.. اين تلهو الزهور والورود واسماك دجلة والفرات.. يوم كانت الدنيا كلمات موزونة ومقفاة تنتظر لفتة من شاعر لتكون في لحظة فرقة موسيقية ونقول: الله.. الله.. يا استاذ.. الله!

وكان الاساتذة في العراق كثيرين.. نصف سكان العراق شعراء والنصف الثاني يتذوق الشعر.. ويتذوقون الحياة ايضا.. وعلى ايام صدام حسين لا انسى انني كنت اجلس الى صديق يقول شعرا.. الله ما اجمله.. وفجأة وجدته يقول نثرا غريبا عجيبا: يا سيدي ان الخطة الخمسية الاولى.. اسفرت عن نجاح للحزب والسيد الرئيس.. اما الخطة الثانية..

ولم اجد في شكله وصوته ما يدل على هذا التحول الشاذ.. فلا شرب فصار مخمورا.. ابدا.. ان الرجل عاقل فنان ذكي ووطني.. ولم يساعدني في حل هذه اللغز فيقول شيئا. ولم تطل حيرتي.. عندما فأجأني بقوله: لقد سمعت صوت الباب انه ابني قد عاد.. وهو عضو في الحزب وفي المخابرات!

وفي كل بيت في العراق مثل هذا الابن، ولذلك فالناس يتكلمون عن الخطة الخمسية الاولى لانسحاب القوات الأميركية والخطة الخمسية الثانية والثالثة..

فلم تعد (ليلى) واحدة مريضة في العراق، وانما ملايين (الليالي)!