الرجل الصامت

TT

أربعون يوما هي عدد الايام التي مرت على رحيل جنتلمان الصحافة العربية في لندن. ولا تنفك صورته تظهر ثم تتوارى في خزائن الذكرى. عرفته زميلا من اصحاب القلم النافذ والكلمة الطيبة والعزيمة التي لا تفتر والمزاج الذي لا تعكره زحمة عمل او ازمة اتخاذ قرار. عرفته رجلا مناسبا في منصب مناسب. هكذا عرفت محمود عطا الله.

لم اكن اعرفه إلا اسما الى ان حطت به ظروف العمل في مكاتب هذه الصحيفة التي اصبحت دارا ومدرسة لجيل كامل من الصحافيين والكتاب الذين تركت بصماتهم علامات على وجه صاحبة الجلالة. لم اسمعه مرة ينهر مرؤوسا ولم اعهده يتعالى على اي عمل مهما كان بسيطا. كان يتحرك بهدوء ويعمل في صمت ويسير بخفة نحو ماكينات القهوة الجاهزة في ممرات دار الصحافة العربية.

لا اذكر كيف ومتى تحول هذا الوجود الحميد والبعيد نسبيا الى أثر انساني ثابت ومطمئن. صرنا اصدقاء يثق الواحد بالآخر ويتبادل معه الخبرة والمشورة وأصبحت زوجته حميمتي. أصبح بيننا عيش وملح كما يقول اهل مصر.

وظل احساسي به كرجل كتوم لا يترك للانفعال منفذا الى تعامله مع الآخر الى ان شاهدت انفعاله بعيني يوم صار جدا.

كانت ابنته زينب في حالة وضع في المستشفى. وجلس الرجل يدخن سيجارة بعد اخرى في صمت كامل لا تبدو على قسمات وجهه اية اشارة لما يعتمل في صدره. وبعد ساعات من الانتظار المروع جاءت ممرضة لتعلن ان الأم وضعت توأما ذكرا وانثى وان الأم بخير والمولود الذكر بخير ولكن الانثى ولدت ضئيلة فتوجب ان تستقبلها حضانة الى ان يأمر الطبيب بخروجها.

سار ببطء الى المكان الذي اودعوا فيه حفيدته. وفي تلك اللحظة رأيت انفعاله للمرة الاولى. خرج المارد من القمقم بحيث انه باشارة واحدة من يده امر الحضور بأن يبتعدوا جميعا عن البيت الزجاجي الذي اودعوا فيه الوليدة. وبقي وحده الى جوارها ينظر الى الجسد الضامر الصغير والعينين المسبلتين والانبوب الرفيع المثبت في الانف. اكتسى وجهه بحمرة ساخنة ثم شحب الى لون رمادي وظل واقفا لأكثر من ربع الساعة ينظر اليها وتتحرك شفتاه بدعاء لم يسمعه سوى الله.

وكتبت السلامة للحفيدة واصبحت ياسمين وشقيقها التوأم عمر هما فندق السعادة السابعة التي يأوي اليه محمود عطا الله يوميا لكي يعبر عن الرضا بالنصيب والغبطة بالحياة.

قبل اربعين يوما رحل الرجل الصامت بلا كلمة وداع. رحل بنفس راضية ومرضية. كنا على موعد، مجموعة من الاصدقاء وأنا، لتناول العشاء على مائدته قبل ان يرحل بأيام ثلاثة. ولكن الله شاء وما شاء الله فعل. وتبقى ذكراه في دواخلنا كوجود خير وضمير نظيف وعطاء هادئ متصل. والذكرى حياة تتجدد كلما ذكره من احبوه بكلمة طيبة.