يقطع (البخشيش) وأيامه

TT

اعتقد أن كلمة (بخشيش) هي كلمة تركية، كما أنها عادة انتشرت أيام حكم الأتراك لأكثر البلاد العربية، وعندما خرجوا هم من تلك البلاد بقيت تلك الكلمة وتلك العادة من ضمن مخلفاتهم التي تركوها، بل إنها مع الأيام تأصلت واستفحلت.

وإذا أردنا أن نكون (واقعيين وحقانيين) فالبخشيش ـ وبعضهم يطلق عليه (الإكرامية) كنوع من التقدير التبريري ـ الشاهد أن البخشيش بجميع أشكاله وأنواعه أصبح ظاهرة عالمية، وقلما يدخل الإنسان مطعما أو فندقا أو ملعبا إلاّ ويتحتم عليه أن يدفع، بل إن أكثر المطاعم في أنحاء العالم تضيف ما لا يقل عن (15% خدمة) وهي في الواقع عبارة عن (بخشيش) ولكنه بخشيش (إجباري) بكل أدب، والعبيط جدا من الزبائن هو الذي يخرج من جيبه بخشيشا فوق ذلك البخشيش ويضعه على الطاولة، والحمد لله أنني في المدة الأخيرة لم أعد عبيطا جدا، وإنما عبيط فقط.

وهناك من يطلب منك البخشيش بأدب، بل وبدون أن تشعر انه يطلبه، فلا تملك إلاّ أن تعطيه لأنه قدرك وخدمك وأراحك بدون أي إزعاج، غير أن هناك من يطلب منك ذلك بكل (ثوارة) وإلحاح ولزاجة لا تقل عن لزاجة ذبابة الصيف التي ما أن تحط على خدك وتهشها وإذا بها خلال لحظة تحط على انفك، وتهشها وإذا هي تحوم حول فمك، وتهشها وإذا هي تريد أن تدخل في عينك أو فتحة أذنك، وعندها لا تملك إلا أن تقفز من مكانك هارباً من كل المكان وكل ذبابة.. وللأسف أن هذه النماذج (الذبابية) منتشرة في بلادنا العربية لدرجة أنها أثرت على السياحة فيها، والبلد الذي تستفحل فيه تلك الظاهرة السلبية هو في الواقع يخسر الكثير، مقابل (الفتات) الذي يحصل عليه المتهافتون على (البخشيش).

وإذا يحق لي أن اروي لكم عن موقفين حصلا لي الأول في احد البلاد العربية، والآخر في احد البلاد الأوروبية وعليكم أن تستخلصوا منهما ما تشاءون.

الموقف الأول: كنت في غرفتي في احد الفنادق واتصل بي رجل الاستعلامات يخبرني انه وصلني (فاكس) فقلت له أن يبعث به لي على الغرفة، وما هي إلا دقيقة وإذا هناك طرق على الباب، وبما أنني (زهقت وطفشت وفلست) من كثرة (البخاشيش) فطلبت ممن أتى بالفاكس أن يمرره من تحت الباب، وبحكم انه فهم قصدي فقد قالي لي (بقواية عين): إنني لا أستطيع لأنه موضوع على (صينية)، فما كان مني إلا أن أقول له: لا أريده أعده من حيث أتيت به، أو مزقه، أو (بله واشرب مويته).

الموقف الثاني: أوقفت سيارتي عند محطة البنزين الجديدة، وبعد أن انتهيت، وكان قد لفت نظري حماسة وأدب الشاب الذي نظف الزجاج الأمامي لسيارتي وبعد أن دفعت الثمن وقبل أن أتحرك وإذا بالشاب يقف أمام الباب ويمد لي (كوباً) وبكل أريحية أخرجت بعض النقود المعدنية ووضعتها فيه، وما كدت أن أتحرك حتى ضرب على سقف السيارة فأوقفتها متعجباً ومتسائلاً، وإذا الحكاية وما فيها أن ذلك الشاب هو ابن صاحب المحطة، وكل سيارة (تعبي بنزين) عندهم يمنحون سائقها (كوبا كهدية)، أخذت منه الكوب مبتسماً وفيه نقودي المعدنية كاملة غير منقوصة.

[email protected]