نقاط للنقاش مع المسؤولين الأمريكيين

TT

كانت مفاجأة هائلة أن أسمع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يصرح أمام كاميرات التلفاز بأنه «شعر بالقلق حيال سورية بعد أن قرأ صحف اليوم»! وتساءلت هل يستمدّ رئيس أقوى دولة في العالم معلوماته عن البلدان المختلفة من قراءة الصحف كل صباح، ويخطّطّ لسياساته حيالها على هذا الأساس؟!!

وقد كانت تصريحات وزيرة خارجيته على برنامج تشارلي روز وتحليلاتها للوضع السوري اللبناني تشير إلى أن الجواب على السؤال المطروح يمكن أن يكون «نعم»، لأنّ الذين قدّر الله لهم أن يكونوا أبناء هذه المنطقة منذ آلاف السنين مندهشون من حجم التجاهل الرسمي الأمريكي لحقائق الواقع في منطقتنا، أو أنهم يخططون لأسباب أيديولوجية لتغيير هذه الحقائق بطريقة أدت دوماً إلى كوارث بشرية، دفعت مسبقاً ثمنها مئات الألوف من الضحايا في فلسطين، ثم انتشرت الكارثة إلى العراق، وها هم يستهدفون بلداً عربياً آخر.

فبعد انسحاب القوات السورية والمخابرات العسكرية المرافقة لها من لبنان تنفيذاً للقرار 1559، وبعد أن قدمت لجنة التحقّق الدولية من الانسحاب تقريرها للأمين العام للأمم المتحدة، وشهدت على انسحاب الجيش السوري والمخابرات انسحاباً كاملاً من لبنان، وبعد أن أكد ذلك في تصريحاته الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه السيد تيري رود لارسن، تعاود الولايات المتحدة التسريب التقليدي للأخبار إلى الصحف، كي يتم تبنيها رسمياً من قبل المسؤولين الرسميين لاحقاً!! وها هي الولايات المتحدة تعتمد على تقارير صحافية سربتها مخابراتها كي تبرر الضغوط على الأمم المتحدة، كي ترسل لجنة تحقّق أخرى بحجة أن بعض عناصر المخابرات السورية قد لا تزال موجودة هناك خاصةً بعد أن تحدث مسؤول في الإدارة الأمريكية، رفض الكشف عن اسمه، بأن الولايات المتحدة تلقت «معلومات ذات مصداقية» بأنّ «عناصر سوريةً في لبنان تخطّطّ لمحاولة قتل قادةٍ لبنانيين»، وأنّ «المخابرات العسكرية تعود إلى لبنان لخلق جوٍّ من الاستفزاز هناك». وقد قالت السيدة رايس أن «القوات العسكرية السورية قد خرجت من لبنان ولكنّ البعض منّا لديه شكوك حول بعض قوى المخابرات، وعلينا أن نحافظ على الضغط على السوريين كي يكونوا شفافين حول ما يفعلونه في لبنان».

كيف يمكن لمسؤول رسمي أن يبني حالةً على الشكوك، بينما يتم تجاهل صورة سفير دولةٍ تنادي بعدم التدخل في الحياة السياسية اللبنانية، وهو يتجول على المراكز الانتخابية وعلى السياسيين في محاولةٍ لوضع «الموالين» لها في البرلمان! عجباً للديمقراطية التي ينادون بها في الشرق الأوسط! ولكن الأمر الأخطر هو تسريب الولايات المتحدة و«الموالين» لها في لبنان خبر وجود قائمة اغتيالاتٍ للزعماء السياسيين في لبنان والخطير هو أن مثل هذا التسريب حدث قبيل اغتيال كلٍ من رفيق الحريري وسمير قصير، ومن الواضح أنّ من يخطّطّ لإحداث حالة عدم الاستقرار في المنطقة بهدف تغيير الأنظمة سيستمر باغتيال شخصياتٍ أخرى، من أجل زعزعة استقرار لبنان وسورية، خاصةً أنّ مثل هذه الأخبار يتم تسريبها عادةً من قبل المخابرات الأمريكية وحليفتها الإسرائيلية، وأنهما لهما الصلاحيات الرسمية لممارسة الاغتيال، ولهما سجلٌ طويلٌ من أعمال زعزعة الاستقرار كما حدث في إيران مصدّق وتشيلي ألليندي، وحديثاً في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

لقد أدركت سورية دائماً أن أمن لبنان جزءٌ من أمنها وأنّ أمن سورية هامٌ للبنان، ولا توجد مصلحة لسورية على الإطلاق بزعزعة استقرار لبنان، بل العكس هو الصحيح، وقد قدّم السوريون أرواح الآلاف من شبابهم دفاعاً عن لبنان ووحدة شعبه وحريته واستقلاله، وأعادت له نظامه السياسي الديمقراطي والاقتصادي الحر، وحافظت على أمنه واستقراره قبل أن تتدخل أطراف أخرى وتقوم بالاغتيالات المشبوهة في لبنان. لقد أذاعت محطة الـ بي بي سي برنامجاً بعد اغتيال الحريري بساعات، أكدّ المتحاورون فيه أن هذا العمل يستهدف سورية ولبنان، ووجهت أصابع الاتهام نحو اسرائيل، وبعد ذلك تحرّك الإعلام باتجاه اتهام سورية وصمت، بإيعاز معروف، صمتاً كاملاً عمّن يخططون ويعملون لزعزعة أمن المنطقة وتفتيتها إلى قبائل وأديان وطوائف وأعراق وحتى عوائل..! إنّ من اغتال الحريري وسمير قصير ينفذ خطّةً يتحدثون عنها علناً من أجل زعزعة أمن واستقرار سورية تماماً، كما تتم اليوم ومنذ بداية الاحتلال الأمريكي للعراق، عمليات قتل المدنيين العراقيين، من أجل إشعال فتيل الحرب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد، بعد أن فرض عليهم قسرياً التقسيم الطائفي، والتي إذا اشتعلت سيصعب إخمادها.

المسؤولون الأمريكيون يعرفون مصدر المعلومات التي تقول بوجود تهديدٍ لاغتيال القادة اللبنانيين، فمثل هذه المصادر هي التي كانت تسرّب قصصاً متتالية عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية! لماذا لا يذكرون مصادر هذه المعلومات، ولماذا لم يظهروا على الشاشة الأشخاص السوريين الذين يدّعون بوجودهم سواء في العراق أم في لبنان؟

تقول السيدة رايس إن الهدف هو زعزعة الاستقرار وخلق الفتنة الداخلية في لبنان، ولكن من له مصلحةٌ غير إسرائيل وحدها في ذلك، فهي التي غزت لبنان واحتلت بيروت وجنوب لبنان وأشعلت فتيل الحرب الأهلية، بينما قدّمت سورية عشرات الآلاف من أبنائها ثمناً لتعطيل فتيل الفتنة وإنهاء الحرب الأهلية في لبنان. وإذا كانت السيدة رايس تقول هناك «نموذج محتمل للاغتيالات السياسية»، فيجب التذكير بأن ّ حكومة شارون ناقشت في مجلس وزرائها المصغّر منذ سنتين خطةً للاغتيالات السياسية وافق عليها مجلس الوزراء، واغتالت بموجبها العديد من القادة الفلسطينيين وشخصيةً فلسطينيةً في دمشق، وأنّ إسرائيل هي الوحيدة في منطقتنا التي تمارس التصفيات الجسدية علناً أمام مرأى ومسمع السيدة رايس التي لم تعترض على ذلك يوماً. وبذلك فإن إسرائيل هي التي تسعى إلى زعزعة استقرار المنطقة بكاملها بعد أن حرّضت وشجعت على حرب العراق، وتحرّض اليوم على لبنان وسورية.

أما أن تدعو السيدة رايس إيران وسورية وغيرها أن يتوقفوا عن دعم المجموعات المسلحة «الرافضة»، التي تحاول قطع المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في محاولةٍ لإنهاء إسرائيل، فإن في ذلك تجاهلاٌ لحقائق الواقع الفعلي في الشرق الأوسط. فأولاً لا توجد مفاوضاتٌ إسرائيلية فلسطينية، بل احتلال دموي للفلسطينيين وأسلحة فتاكة تستخدم ضد المدنيين وغازات وقنابل محرّمة دولياً، تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، أولم تسمع السيدة رايس شارون يعلن من واشنطن أنه «لن ينسحب إلى حدود الربع من حزيران 1967»، و«لا يعترف بحقوق اللاجئين» حين تحدث للإيباك ورفض طلب مقابلتها ليعبّر عن قوته وشأنه أمام الولايات المتحدة؟! أولم تلحظ السيدة رايس أن العرب قدموا المبادرة العربية التي أُقرت في مؤتمر قمة بيروت عام 2002، وتمّ التأكيد عليها في قمة الجزائر 2005، والتي تنص على أنّ كل الدول العربية مستعدةٌ لصنع السلام مع إسرائيل إذا انسحبت إلى حدود 4 حزيران 1967؟ والآن تغذي إسرائيل أطرافاً إرهابية في العراق وسورية ولبنان لخلق الفتنة وتفتيت المنطقة.

أتمنى أن يضع القادة الأمريكيون الحقائق قبل الأيديولوجيا وقبل أن يطلقوا تصريحاتهم، وأن يدققوا في مصادر المعلومات ويكتشفوا من الذي زعزع أمن وحياة ومستقبل العراق، ومن الذي يخطط للاستمرار في زعزعة أمن لبنان بهدف إحداث تغيير موالٍ لها في سورية، وسنجد أن إرسال المال والسلاح للإرهابيين، مثل مجموعة جند الشام الإرهابية في دمشق، تتلاقى مع هذه المخططات والرؤى في محاولتها تفتيت المجتمعات العربية. فمن غير المخابرات الأمريكية والإسرائيلية من موّل وسلّح ودرّب واستخدم مثل هذه المجموعات الإرهابية في الثمانينات التي عبثت بأمن وحياة شعبنا. إن الشرق الأوسط بالنسبة للرئيس الأمريكي وغيره من قادة الولايات المتحدة صورة يرونها لمدة دقيقة على شاشة التلفاز، وخبر يقرأونه على عجالةٍ في الصباح، ولكنه بالنسبة لنا هو تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهو أمن أطفالنا، وهو السماء التي نعشق، والأرض التي نزرع، والديانات التي نقدّس، وأجدادنا من الرسل الذين انطلقوا من هنا لهداية البشرية.