أمريكا تتهم الخليج بالاتجار بالبشر .. جملة ناقصة!

TT

صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً، تقرير يضيف أربع دول خليجية، وهي السعودية والكويت وقطر والإمارات، إلى قائمة الدول المتهمة بالاتجار بالبشر، وانتهاك حقوق العمالة الوافدة، وتساهلها في استغلال الأطفال لصالح سباقات الهجن، من جانبه انتقد وكيل وزارة الخارجية السعودية للشؤون السياسية الأمير تركي بن محمد بن سعود الكبير هذا التقرير، معززاً كلامه بأن تشريعات السعودية وقوانينها تحرم الاتجار البشري، وكان من الأجدر أن يتأكد الجانب الأمريكي من صحة معلوماته قبل إعلانها، فأين تكمن حجتنا فيما نُشر!

عادة ما يتسم السلوك الأمريكي عند فرض معاييره بالاستفزاز الذي قد يصل إلى درجة الفجاجة، وعليه يكون التساؤل: ألم يكن بالإمكان التشاور أولاً مع جهات الدول المعنية والمذكورة في التقرير لإعطائها الفرصة لمناقشة ما جاء فيه بالأدلة والشواهد! أما كان من الجائز تجنب الإحراج، الذي وجدت السعودية نفسها وغيرها فيه، وخاصة وأن المدعية هي دولة من المفروض أنها صديقة وتربطها علاقات تاريخية بالمنطقة! فلماذا انتهجت اللجنة الأمريكية المسؤولة عن التقرير عدم الحكمة في الحديث المقروء! ولماذا اختارت الولايات المتحدة هذا التوقيت بالذات في حين أنها في يونيو عام 2003 قد أشادت بجهود دولتي السعودية والإمارات، لمنعهما استخدام الأطفال في سباقات الهجن ـ مع التحفظ على كلمة «المنع»، فلا القطع به حينذاك يمكن أن يعبر عن الحال، ولا الجزم بنقيضه يقر بوصف واقع اليوم ـ فماذا جرى حتى تحول الرضا إلى تهمة وفي ظرف سنتين، لا أزعم أن تغيراً كبيراً حدث خلالهما! أ هو ارتفاع أسعار النفط ولي الذراع! أم هز الشباك والحشر في ركن الدفاع عن النفس الأزلي! أو يكون إرباكنا في المحافل الدولية، ولا تلميح عن أبو غريب ولا تدنيس لمقدسات ولا غيره! أم هي كروت الضغط جميعها وزد عليها ما خفي وستبديه الأيام!

يُقال إن «الثقافات نسبية، في حين أن الأخلاق مطلقة»، ولكن اليمين المحافظ في البيت الأبيض لا يبدو عليه الاقتناع بمضمون هذه المقولة بالشكل الكافي، مع العلم أن الإدارة الأمريكية، كلما نحت إلى مزيد من التنميط والتجانس العالمي في السلوك والتفكير بمواصفاتها الموحدة تحت مسمى الكونية، كلما تسببت في انبعاث الهويات الوطنية والمحلية كسلاح للاستماتة في الحفاظ على الأسس والكيانات المجتمعية الأصل، وما أبعاد الإحياء الديني، الذي برزت مفرداته منذ نهاية الثمانينات في الوطن العربي من القرن الماضي، إلا تجسيد لنوع من الثقافة القومية في محاولة للوقوف بوجه الإفراط والمبالغة التي تنطوي عليهما الهيمنة الغربية، وإذا كانت الخارجية الأمريكية قد تمخضت فخرجت علينا بهكذا تقرير، فلتعلم أن حضارة الغرب التي تمثلها من حيث إدخال الجميع في دوامة الربح والسيطرة والاستهلاك قد أعاقت على نحو ما خطط التنمية في العالم، وتسببت في تحولها إلى مجرد حضارة سلعة وصورة يتجاذبها تناوب المتعة والملل لدى الميسورين، والحقد والجوع والخروج عن القانون لدى المحرومين، والخوف والرفض لدى المتشدّدين.

أمّا طبعة العصر للرق والعبودية والمعروفة باسم تجارة البشر، فيدخل تحت بندها اللجوء للتهديد والعنف لإرغام الضحايا من النساء والأطفال المهربة، على القيام بممارسات جنسية أو أعمال قسرية فيها كل انتهاك للآدمية والحقوق الإنسانية، وعليه، لا يكون ما يحدث في دول الخليج تهريباً للبشر قدر ما يعني وقوع التجاوزات، والتي نعم قد تدخل في فقرة الانتهاكات للعمالة، سواء أكانت وافدة أم حتى وطنية، من فئة الرجال أو النساء، فالعامل هو العامل، له حقوق وعليه واجبات بصرف النظر عن جنسيته وموطن نشأته.

ولأن السعودية غالباً ما كانت موضع فضول وتدخّل المنظمات الغربية المعنية بحقوق الإنسان، فقد جاء الرد الرسمي بالإعلان عن مشروع لإنشاء هيئة حكومية للدفاع عن الحقوق، إلى جانب الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان، كأول جمعية غير حكومية أعلن عن تشكيلها رسمياً، باعتبارها «جمعية مستقلة» في 8 مارس 2004، والتي قامت بالفعل بمعالجة الشكاوى التي تأتي بها التقارير القاسية لمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، وعلى العموم، فوجود مثل هذه الحالات المخالفة لا ينبغي أن يستحوذ على استغرابنا لانتشاره بين جميع أفراد المجتمع البشري ـ كما صرح بذلك الدكتور بندر الحجار، رئيس الجمعية الوطنية المذكورة ـ وإنما هو العمل على حلها وتلافي تكرارها.

ثم، وبمناسبة الرق، فماذا عن ضلوع إسرائيل في تجارته! ففي تقرير لمنظمة العفو الدولية لعام 2000، ما يؤكد على بيع آلاف الفتيات والأطفال المهربين من الاتحاد السوفيتي في مزادات علنية بإسرائيل، غير حوالي 300 ألف امرأة تتعرض سنوياً للاغتصاب والتحرش الجنسي، وخصوصاً الإسرائيليات من أصول غير غربية، وشبهات حول تقاعس الحكومة وتورط رجال الشرطة في إدارة شبكات للاستغلال الجنسي، الأمر الذي استحقت معه إسرائيل وبجدارة احتلالها لوقع في قائمة الدول الـ23 في عام 2001 والمسماه بـ«القائمة السوداء» التي لا تتاجر بالبشر فحسب، بل ولا تبذل جهداً يذكر لمكافحة الظاهرة.

وإذا كان القانون الأمريكي ينص على اتخاذ إجراءات اقتصادية جزائية ضد دول هذه القائمة، فأين هي العقوبات المزعومة من المساعدات الأمريكية المستمرة لإسرائيل! ثم، وعلى ذكر بلاد العم سام، ألم تكن أكبر عملية متاجرة بالبشر قد ارتكبت في أمريكا باستعباد ملايين الأفارقة ـ ولا يزال ـ بعد اقتلاعهم من جذورهم! وماذا عن الاتجار بالعمالة القادمة من أمريكا اللاتينية! أم أن الولايات المتحدة يحلو لها ممارسة فقدان الذاكرة الانتقائي في تعاملها مع الآخرين! إن مجتمعا كالمجتمع الأمريكي تغتصب فيه امرأة كل ست ثوان، وتساء معاملة الأطفال بنسبة 92% من قبل أسرهم، وحكومة ترفض المصادقة على القوانين والاتفاقيات الدولية، كما معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، لما ترى فيه من انتهاك لسيادتها ونظامها القضائي، لا يترك لنا مجموع كل هذا التناقض العنيد، إلاّ القول باختصار «ومن عجب الأيام ترك العجب»!