سيادة الأمة .. وسيادة الفرد !

TT

على مدى التاريخ المعلوم فإن مصطلح السيادة ـ بمعنى السلطة المطلقة ـ لم يكن شائعا لا على المستوى الجماعي، ولا على المستوى الفردي; فبين الممالك والإمبراطوريات والإمارات والمشيخيات، وكل الوحدات السياسية في العموم، كانت السلطة علاقة بين الحاكم والرعية. وخلال الثلاثة قرون الأخيرة فقط دخل هذا المصطلح مترددا خجولا في البداية، ثم كاسحا في النهاية مع القرن العشرين على مستوى الدول التي صارت «مستقلة» ذات سيادة; وعلى مستوى الأفراد الذين لم يعودوا «رعايا»، وإنما «مواطنين» لهم الحرية في الاختيار للحكام والنظام السياسي.

ففي عام 1900 كان هناك 55 دولة في العالم «ذات سيادة»، بمعنى أنها لديها سلطة تعبر عن هوية قومية ما، مضافا إليها 13 إمبراطورية كان أكبرها البريطانية، ومعها الفرنسية والروسية والنمساوية المجرية والعثمانية، وأخيرا 113 بلدا تعيش تحت الحكم الاستعماري. وبعد قرن من الزمان، ومع مطلع القرن الواحد والعشرين، فإن عدد الدول «المستقلة» و«ذات السيادة» في العالم أصبح 192دولة. ولكن الاستقلال والسيادة لم تكن بالضرورة داعية إلى تحقيق الديموقراطية; ولا كانت الديموقراطية بالضرورة تقود دوما إلى احترام حقوق الإنسان، فكثيرا ما كانت «الأغلبية» طاغية على حقوق الفرد والأقليات الدينية أو العرقية. ومع ذلك فإن الاتجاه الذي تخطئه عين هو وجود اتجاه تاريخي آخر نحو احترام سيادة الفرد رغم الثمن الفادح المدفوع في كثير من الأحيان للسير في هذا الاتجاه.

فحتى عام 1900 لم تكن هناك دولة ديموقراطية واحدة موجودة في العالم، ولم يكن هناك موجود إلا 25 دولة تمثل 12.4% من سكان العالم تمارس الديموقراطية ممارسة جزئية، حيث جرى حرمان كتل سكانية من النساء ـ بريطانيا، والسود ـ الولايات المتحدة ـ من حقوق التصويت رسميا أو عمليا. وبعد نصف قرن وفي عام 1950 بلغ عدد الدول الديموقراطية 22 دولة تمثل 31% من سكان العالم، وبلغ عدد الدول ذات الديموقراطية المقيدة 21 دولة تمثل 11.4% من سكان العالم. وبعد قرن من هذا التاريخ وفي عام 2000 فقد صار هناك 120 ـ من 192 ـ دولة تمثل 62.5% من سكان العالم تمارس الديموقراطية من خلال مؤسسات تؤدي إلى تداول السلطات في عملية دورية للانتخابات.

ولكن الديموقراطية بمعنى النظام السياسي الذي يكفل للمواطنين المشاركة في القرار السياسي من خلال انتخابات منتظمة، تكفل إمكانية تداول السلطة والمشاركة في صنع القوانين الخاصة بخلق الموارد وتوزيعها، لا تمثل إلا بعدا من أبعاد «سيادة الفرد» في تفاعله مع «سيادة الدولة». فهناك أبعاد أخرى تشكل كلها مدى الحرية المتاحة للمواطن في اتخاذ القرارات الخاصة والعامة، وهذه بدورها تشير إلى وجود توجه عالمي نحو مزيد من الحرية. ووفقا لمقاييس متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية ليس هنا مكان شرحها، فإن عدد الدول الحرة في العالم عام 1973 بلغ 44 دولة تمثل 29% من دول العالم; أما الدول الحرة جزئيا فقد كان عددها 42 دولة أو 28% من دول العالم; أما الدول غير الحرة أو التي يقع مواطنوها تحت سيطرة حكومات قمعية فقد كانت 65 دولة أو 43% من دول العالم. وبعد عشر سنوات، وفي عام 1983 تغيرت هذه الأرقام لكي تكون 53 دولة (32%) و56 (33%) و58 (35%). وبعد عشر سنوات أخرى، وفي عام 1993، تغيرت هذه الأرقام مرة أخرى لكي تصل إلى 72 دولة (38%) و63 دولة (33%) و55 دولة (29%). وفي عام 2003 أصبح عدد الدول الحرة في العالم 88 دولة (46%) والدول المقيدة الحرية 55 دولة (29%) والدول غير الحرة 49 دولة (25%). وفي العام الحالي انتقلت دولة واحدة من صفوف الدول المقيدة الحرية إلى قائمة الدول الحرة حتى تجعل عددها 89 دولة، وبقي عدد الدول غير الحرة على حالها. إن هذه الأرقام لا تخطئها عين في وجود اتجاه عالمي وتاريخي نحو التحول الديموقراطي في العالم. فهذه الأرقام ذاتها تشير إلى وجود علاقة ارتباطية ـ نكرر ارتباطية وليست سببية بالضرورة ـ بين درجة الحرية والديموقراطية والتقدم الاقتصادي. فبين الدول الفقيرة التي يبلغ متوسط دخل الفرد فيها حوالي 450 دولار في العام توجد 37 دولة (41%) غير حرة، و39 دولة ( 43%) مقيدة الحرة، وفقط توجد 15 دولة حرة (16%) وبين الدول متوسطة الدخل حيث متوسط دخل الفرد 2960 دولارا فإن عدد الدول الحرة يرتفع ليصل إلى 35 دولة ( 66%)، والدول مقيدة الحرية يصبح 11 دولة (21%)، أما الدول غير الحرة فتنخفض إلى 7 دول (13%). وعندما نصل إلى الدول عالية الدخل حيث متوسط دخل الفرد 19570 دولارا فإن عدد الدول الحرة يصبح 38 دولة (80%)، والمقيدة الحرية خمس دول (10%)، ومثلها من الدول غير الحرة.

هذه المعلومات التي استقيناها من مصدر «الفريدم هوس» الأمريكي ربما لا تكون بالغة الدقة; أو أن المعايير التي استندت إليها يمكن إعفاؤها من الانحياز، ولكن التطبيق على أساس من المساواة مع باقي دول العالم يجعل العالم العربي خارجا تماما عن التيار التاريخي لسيادة الفرد وعلاقته بالتقدم الاقتصادي، بل انه في أحيان كثيرة يضعها في حالة تناقض مع «سيادة الأمة».

ومن بين الدول العربية لا توجد دولة واحدة يمكن القول انها «حرة» وتقع ضمن 89 دولة تنتمي إلى هذه الصفة في عام 2005، ولا تبدأ الدول العربية في الظهور إلا في المراتب المتأخرة من الدول الحرة جزئيا ولأسباب تعود في أكثر الأحيان إلى التحرر الاقتصادي، وليس التحرر السياسي والاجتماعي، بينما تقع الأغلبية الساحقة من الدول العربية، والأغلبية الساحقة من العرب، في دائرة الدول غير الحرة رغم استقلالها وحصولها على سيادة الدول.

وهنا نصل إلى جوهر الإشكالية الحالية في عملية الإصلاح التي تتردد أصداؤها في العالم العربي، فالحكومات «الطاغية» تفسر طغيانها بالدفاع عن سيادة الدولة واستقلالها في مواجهة العالم الخارجي، والمعارضة على أشكالها المتنوعة تطرح معارضتها للنظم الحاكمة انطلاقا مما تراه عجزا في تحقيق الاستقلال والحفاظ على السيادة، ومواجهة الغزو الخارجي ثقافيا كان أو اقتصاديا أو جغرافيا. ومن ثم فإن هناك حاجة لوجود نخب جديدة أكثر قدرة على تحقيق السيادة للدولة. وفيما عدا قلة قليلة من الليبراليين العرب فإن الاعتقاد العربي الذائع كان دوما أن تحقيق سيادة الدولة سوف يحقق آليا سيادة الفرد، بل انه أحيانا كان طرح فكرة السيادة للفرد لا تعني أكثر من خلق نوع من أحصنة طروادة أو فيالق من «المارينز» تخترق الدولة وتهدد استقلالها. فك هذه الإشكالية أصعب كثيرا من شرحها; وربما كان ذلك جزءا من «الخصوصية» العربية التي لا تفك عندها الإشكاليات وإنما تتعقد وتتراكم تعقيداتها كل يوم!