إيران والأهواز.. من تصدير الثورة إلى استيراد التغيير

TT

ليست الأهواز وحدها وراء ما يجري بإيران اليوم، من مظاهرات واحتجاجات وتفجيرات وصلت إلى قلب طهران. بل بعد خفوت بريق الثورة الإسلامية أخذت تفتح الملفات تباعاً. الملفات التي تراكمت على مر سنين الثورة. منها الملف القومي والمذهبي، وملفات الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي. لقد سترت الحرب العراقية ـ الإيرانية العديد من عيوب الثورة، وتحمل الإيرانيون المشغولون في جبهات القتال، نزق الجيش الثوري وشدته في الشارع الإيراني. فكان يحاسب بعنف النساء والرجال غير الملتزمين بالشريعة; يحاسب هذه على حجابها، ويحاسب ذاك على أزرار قميصه، حتى قسم حافلات النقل إلى خانة للرجال وأخرى للنساء.

بدأت الثورة الإسلامية الإيرانية تفقد بريقها بعد تعنت قائدها آية الله الخميني (1989) في استمرار الحرب مع العراق، وبهذا يتحمل صدام حسين إشعال الحرب بينما يتحمل آية الله الخميني استمرارها، حتى اعتبر وقفها جرعة من السم. وعلى الدولة العراقية أن تأخذ بنظر الاعتبار هذا الموقف عند مطالبة إيران بالتعويضات على ما خسرته جراء الحرب.

كان الخميني يتوق إلى نظام على شاكلة نظامه بالعراق، تدعمه الأحزاب الإسلامية الشيعية، التي تراجع العديد منها في ما بعد، وأخذت تفكر بمشروع عراقي مستقل عن الثورة الإيرانية، ولهذا اضطر الناشطون في هذا الاتجاه إلى مغادرة إيران إلى دول أخرى.

لقد لعب النظامان على مفهوم الشهادة والتضحية في الحرب، كان الشباب من كلا البلدين يتساقطون حطباً لهذه الحرب، فاعتمدت إيران نظام «الكراديس» البشرية، تبشرهم بالجنة بعد فترة تدريب قصيرة. واعتمد النظام العراقي فرق الإعدام الفوري، تقف خلف المقاتلين لتعدم المتراجع إلى الوراء في الميدان. وقد شاعت بالعراق عبارة صدام حسين: «الشهداء أكرم منا جميعاً»، بينما شاعت بإيران عبارات الخميني المشجعة على الشهادة. قال: «لا تسمحوا أبداً للذين سبقوا نحو الشهادة المتقدمين بلبس زي الدم، أن يحالوا إلى النسيان في أزقة الحياة المعقدة». وقال أيضاً: «أيها الشهداء، اطمئنوا في جوار الحق تعالى، فإن شعبكم لن يتوانى عن النصر الذي جلبتموه له. ويا ذوي الشهداء وأيها المعلولون الأعزاء الذين ضمنتم الحياة الأبدية ببذل سلامتكم، اطمئنوا وثقوا فإن شعبكم عازم على حراسة حكومة الله إلى ظهور بقية الله (المهدي المنتظر)». وفي النهاية انتهت الحرب تاركة خلفها جثامين مليون شاب عراقي وإيراني، ومئات الألوف من المعوقين والأيتام. فبعد تورط النظام العراقي في هذه الحرب، ويتحمل صدام حسين مسؤوليتها كاملة، جعل الخميني من هذه الحرب بوابة لتصدير الثورة الإسلامية، والعراق هو البلد الأنسب، حسب تصور الخميني، لتحقيقها آنذاك.

لم يترك النظام الإيراني في سنواته الأولى فرصة إلا واستغلها لتصدير الثورة، وكانت مناسبة الحج في سنة 1987 مشهورة، يوم أخذ الحجاج الإيرانيون يطلقون الهتافات بما يتنافى مع تقاليد وطقوس الحج والعمرة. كذلك لم تتردد الثورة الإيرانية في رعاية أحزاب تابعة لها حيث قدرت على ذلك، وكانت البادرة تأسيس «حزب الله» بعد شق طائفة الشيعة بلبنان.

كان تصدير الثورة من مهام الدولة الإيرانية الجديدة، حتى اعتبرته دفاعاً عن الإسلام. قال رئيس الوزراء مير موسوي لصحيفة عربية بلندن: «إن تصدير الثورة الإسلامية إلى الخارج ما هو في الحقيقة إلا جهود تبذل في سبيل الدفاع عن الإسلام». وأكثر من هذا جعل آية الله الخميني تصدير الثورة الإسلامية، على الطريقة الإيرانية، واحدة من مهام الثورة. وقد جمع بين دم الشهيد وفعل تصدير الثورة. قال في ما قال ونشرته جريدة «النور» الإيرانية: «آخر حديثي معكم يا من وجود وبقاء الجمهورية الإسلامية نتيجة دماء آبائكم، أن تبقوا لها أوفياء وتفدونها بحياتكم، وباستعدادكم، وتصدير الثورة وإبلاغ رسالة الشهداء».

كانت مفاجأة أن يطل حسين مصطفى الخميني من على شاشات الفضائيات والصحف اليومية مندداً بالنظام الذي أسسه جده آية الله الخميني. وقد اغتنم فرصة سقوط النظام العراقي، وقام بزيارة للعراق، وهناك أفصح عن معارضته لنظام جده، وكان قد رافقه في رحلاته من النجف وباريس حتى طهران، ودخل معه منتصراً، وشاهد بحر البشر الذي استقبل جده، وكانت لحظة الوصول حداً فاصلاً بين نظام الشاه ونظام الجمهورية الجديد. كان للحفيد، يوم وصل طهران وأصبح جده القائد الأعلى، عشرون عاماً، عاش في رعايته بعد موت والده السيد مصطفى بالنجف. لكن الحفيد اختلف مع نظام وفكر الجد، وأعلن مسببات الاختلاف بكثرة الإعدامات، واستغلال الفورة الشعبية للملايين غير المدركة لحقيقة ما يدور حولها. فأمعن قادة الثورة بالقمع وسلب الحريات، وقد أغراهم ذلك في التخلي عن تعهداتهم السابقة، وعن أعوانهم في قيام الثورة. ولما سُئل الحفيد هل بينت لجدك ما ضايقك من تصرفات رجال الثورة أو الوضع بشكل عام؟ قال: «هو وافقني، ويرى أن أعكف على الدروس أحسن. وبالفعل انصرفت إلى الدراسات فقط، في «قم». ومارست نشاطي العلمي وأصبحت آية الله؟ وأجاب على سؤال ما إذا كانت إيران تريد تصدير الثورة؟ قال: «كان موجوداً ومطروحاً. وهذه هي روح الثورة. ولكن كان يجب أن تتحقق قوة عسكرية تساند هذه الروح».

أقر حفيد الخميني بأن ثورة جده أكلت رجالها، فمسعود رجوي محكوم بالإعدام، وتحول إلى ثائر ضدها، وكان من المشاركين في الثورة. وبني صدر هرب تحت جنح الظلام. ومنتظري ما زال حبيس الدار منذ سنوات طويلة. وتفجيرات مدوية غيبت رجائي وبهشتي وغيرهم. وقد لخص حفيد الخميني موقفه من الدولة الدينية في إجابته ما إذا رغب في وراثة جده، قال: «لا أؤمن بحكومة دينية حتى أكون له خليفة، وقد طلب مني ورفضت لأنني لم أقبل ولو بوظيفة جزئية، فضلاً عن وظيفة كبيرة في دولة لا أؤمن بمشروعيتها».

هذا، ومَنْ يطلع على مذكرات حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني، التي صدرت تحت عنوان «حياتي» (دار الساقي 2005)، يدرك إلى أي مدى حاول رجال الثورة استغلال العامة عن طريق المنبر الحسيني، لتهييجها ضد أي قرار حتى وإن كان نافعاً لها، بل ولتهييجها ضد الخصوم من أبناء الثورة نفسها، في فترة الإعداد للثورة. لكن السؤال هل ظل بريق الثورة فاعلاً في مناسبات عاشوراء، والجماهير سامعة لخطب التأييد بعد أن سمعت وأطاعت خطب التحريض؟ يرد على هذا السؤال بسهولة موقف الشارع الإيراني من رجل الدين، أي المعممين عموماً، وهم في إدارة الدولة، وبالتالي انسحب هذا الموقف السلبي على الدين نفسه.

لم تأت الثورة الإيرانية بفائدة للشعب الإيراني، بل يشعر المواطن هناك أنه أصبح مشروع تجهيل، تخلف على ما كان عليه في الزمن السابق كثيراً، حتى عادت الدولة، بعد أن أحالت الفنون إلى التقاعد، إلى تنشيطها، تحت إلحاح متطلبات العصر، وأخذت بترميم ما هدمته بمعولها. لكن لا فائدة من هذا الترميم إن لم تخرج إيران من احتكار الديمقراطية لرجال الدين، وتخرج من قسم رئيس جمهوريتها الدستوري «أقسم بالله القادر المتعال أمام القرآن الكريم، وأمام الشعب الإيراني أن أكون حامياً للمذهب الرسمي». وتنظر في أمر الأهواز بمنظار خالٍ من الهيمنة القومية. وتوفر جهدها في إقلاق العراقيين، ودول الجوار. فما يحصل فيها اليوم ربما ليس إلا البداية، والشعب الإيراني يمتلك كل مقومات التغيير.