لن تقهروا روحي

TT

ساحرة حتى العظم، المقطوعة القصيرة التي اختارتها ايزابيل الليندي من شعر بابلو نيرودا لتبدأ بها رواية « صورة عتيقة»، فقد أشارت بعنوان الرواية ـ دون قصد أو بتخطيط مسبق.. لا أدري ـ الى الخلاصة الفلسفية التي توصل اليها أوجينو مونتالي حين قال:

«أشد لحظات الوجود كثافة لا تكمن الا في الذاكرة»، ثم وضعت اللحظة ونقيضها بخيارها النيرودي وجها لوجه فاندغم الماضي بالآتي وما عدت تدري ـ إن كنت تقف عند سطح الاشياء والمعاني ـ أمنحازة هي الى مونتالي ام الى مواطنها نيرودا الذي استعارت منه قوله:

«.... لذا علي أن أعود الى أماكن كثيرة قادمة

كي ألتقي نفسي، أتفحصها دون توقف

دون ما شاهد الا القمر

بعدها أصفر فرحا وأنا أطأ حجارة وترابا

دون ما هم غير العيش

ودون ما أسرة غير الطريق»

هذا الغجري المجنون المعجون بحب الحياة وشبقها يعرف من كثرة ما جرب وتشرد وأحب وكسر وانكسر أن الذكريات تلتقي مع الأحلام على جسر المصالحة مع الذات حين نعود الى أنفسنا عراة من المصالح والرغبات لنسألها ونحاسبها، ومهما كانت النتيجة نحبها فليس لنا في النهاية الا تلك النفس التي تتوق للعيش الذي ولدت له، لكننا نمنعها ونلجمها ونكبلها بالقيود، تارة باسم المسؤولية وأخرى باسم الأخلاق، ونكاد لا ننتبه اليها والى توقها الا بعد ان نشاهد جهارا نهارا فيلم «ضاع العمر يا ولدي».

لقد سبق ناظم حكمت نيرودا إلى القول في مذكراته «العيش جميل يا صاحبي». وكان الشاعران قد تزاملا لفترة قصيرة من الوقت في موسكو، روى عنها نيرودا الكثير رغم قصرها، فالشاعر التركي ايضا محب للحياة ومنغمس في مباهجها وكدرها ويعرف كنيرودا أهمية أن تعود لذكرياتك وتغنيها لتشحذ ارادتك وتقوي عناصر المقاومة في روحك سواء كنت حرا في قمة السعادة أم حزينا اسيرا مقيدا.

ومن الذكريات التي يرويها نيرودا عن ناظم حكمت في مذكراته أن الأخير حدثه أثناء وجودهما في موسكو عن ليلته الليلاء، حين قبض عليه جنرالات تركيا، وبدأوا محاكمته واذلاله على سطح بارجة حربية، فلما عجزوا عن انتزاع المعلومات منه، وضعوه زيادة في الاذلال في دورات مياه السفينة حيث المخلفات البشرية الى الركب، وهناك وقبل ان يغمى عليه انتبه الشاعر الى انهم ربما كانوا يراقبونه من كوة ما ليشاهدوا انكساره، فاستجمع قواه وبدأ يغني الغزل والمواويل واشعار المتصوفة وفولكلور الأناضول، الى أن دبت فيه روح جديدة جعلته يشعر انه أقوى من أولئك الذين يريدون قهره واذلال كبريائه وكسر مقاومته.

حين نقابل ذكرياتنا بحلوها ومرها تحت ضوء القمر تتكثف حيوات وتولد أفكار ويتدفق في الروح نبع من المعاني السامية التي تبدأ مبهمة ثم رويدا رويدا تتوضح وتظهر معالمها لتشكل قاربا ملونا جميلا ينقلنا الى قارة شاسعة اسمها «السلام الداخلي»، حيث لا سلطة على الروح غير المبادئ والأفكار الخلاقة والقناعات الكبرى التي لا يهزمها الزمن.

«لن تقهروا روحي» قالها نيرودا وناظم حكت بطرق شتى للجنرالات والرقباء والطغاة وللروتين اليومي، وهذا ما جعل لحياتيهما ومذكراتهما طعما لا ينسى.