إيران وتجربة خاتمي: مدارات الاوهام والحقيقة

TT

بينما تخوض ايران اليوم انتخاباتها الرئاسية التاسعة، من غير المحتمل أن يفكر كث

يرون بالرئيس الحالي محمد خاتمي وهو يتأهب للدخول في عالم النسيان. ولكن من ذا الذي يستطيع أن ينسى ما سبق أن أثاره من مشاعر في مختلف أنحاء العالم؟ فقد رأى بعض الاسلاميين انتصاره دليلا على امكانية الجمع بين السياسة والدين بدون انتاج مزيج قاتل. وفي الطرف الآخر من الطيف، حاول بعض الليبراليين اقناع أنفسهم بأنه حتى نظام استبدادي يمكن أن يكون منيعا تجاه الاصلاح.

ولكن الاستخدام لمسألة تولي خاتمي سُدة الحكم خلال الحملة الرئاسية الحالية من جانب كل المرشحين الثمانية كتحذير وليس كنموذج. فالمرشحان الخمينيان الراديكاليان علي لاريجاني ومحمد باقر قاليباف تحدثا عن رئاسة خاتمي باعتبارها «ثماني سنوات ضائعة»، بينما وصف مصطفى معين ومهدي كروبي، اللذن يعتبران مرشحين للجماعات المؤيدة للاصلاح الرئيس المنتهية ولايته باعتباره فاشلا.

وخارج المؤسسة يرى كثير من الايرانيين خاتمي باعتباره انتهازيا مثيرا للسخرية، تم تكليفه بدور محدد من جانب صناع القرار الذين يتحكمون بالأوضاع في طهران.

والى ذلك قال الصحافي المعارض أكبر غانجي ان «خاتمي خدعنا جميعا»، فيما قال أحد وزرائه السابقين مشترطا عدم الاشارة الى اسمه، ان «خاتمي كان دمية بيد رجال الدين الحاكمين».

وكلتا وجهتي النظر هاتين غير دقيقتين وجائرتان.

فما من احد يخدع بدون ان يكون قد أراد ان يخدع، على الأقل ليس مرتين. ومع ذلك فان ما يزيد على 20 مليون ايراني صوتوا لصالح خاتمي في عام 1997 وفي عام 2001. وليس هناك دليل على ان خاتمي استغل من جانب صناع القرار، دعك عن كون ظاهرة خاتمي ليست ظاهرة فريدة خاصة بايران. فالأنظمة الاستبدادية الأخرى أنتجت نماذج منها في أوقات مختلفة.

وتتجلى ظاهرة خاتمي عندما يشعر نظام ثوري تحول الى نظام استبدادي، بالحاجة الى تغيير الاتجاه من أجل التكيف مع انعطافة خطرة في مجراه. ويمكن للمرء ان يرى نموذجا لذلك في المرحلة ما قبل الارهابية للثورة الفرنسية، عندما مارس دانتون وجماعته السياسة عبر البلاغة الخطابية.

وفي الثورة البلشفية اتخذت ظاهرة خاتمي صيغة سياسة «النيب» التي ارتبطت ببوخارين وسوقها لينين. وجاء النموذج الذي انتجته الثورة الصينية بشعار «لتتفتح مائة زهرة»، حيث كان ليو شاو تشي في الطليعة. وفي ستينات القرن الماضي مثل يانوش كادار في هنغاريا وألكسندر دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا نموذجين لظاهرة خاتمي.

وفي كل حالة تقريبا انتهت تلك الظواهر بتراجيديا شخصية بالنسبة للرجال المعنيين، وإرهاب وقمع أشد بالنسبة للمجتمع ككل، ومع ذلك فمن المؤكد ان هذا لا يعني ان ايران تتجه الى ارهاب وقمع اشد، أو ان خاتمي قد يكون في خطر شخصي. ومن المحتمل ان لا يكون النظام الايراني قد انتهى من ظاهرة خاتمي، وأننا قد نراها تمتد في ظل رئيس جديد أيا كان لفترة معينة. وبكلمات أخرى، فان استمرار رئاسة خاتمي يجب ان لا يستبعد.

ان كل الثورات تنتج نماذج مثل خاتمي. فهكذا أفراد يعتقدون ان الأمور تحدث ببساطة بالكيفية التي يريدون ان تحدث بها. والتعبير التقني لفلسفتهم يعتبر المجتمعات صفحات بيضاء يمكن للنخب المثالية ان ترسم عليها صورة مجتمعها «الكامل». ولا يمكن لمثل تلك الفلسفة الاعتراف بأن السبب الأساسي لكل المشاكل التي يواجهها المجتمع يمكن ان يكون الثورة ذاتها التي تجعلها مثالية.

وغالبا ما اكد دوبتشيك قائلا «نتمنى أن نصون ثورتنا».

وكان كادار يحب ان يقول ان «المشكلة ليست في الاشتراكية وانما في تطبيقها».

ولأن المثالية والتفاؤل صنوان فإن كل نماذج ظاهرة خاتمي تبدو، في خاتمة المطاف، تجسيدات في الحياة الواقعية لشخصية الدكتور بانغلوس، احد اعظم شخصيات فولتير، وهو ابن رجل نبيل في ويستفاليا، ويتم تعيينه كمعلم لكانديد، فيجد نفسه أحيانا ينتقد تفاصيل الحياة في قصر البارون. ولكن كمعلم للميتافيزيقيا واللاهوت، يشعر بالسرور في البرهنة، على أنه وفي هذا العالم الذي يعتبر افضل العوالم الممكنة، يعتبر قصر البارون اعظم القصور وتعتبر البارونة أجمل السيدات.

ويقول بانغلوس انه «من الجلي ان الأشياء لا يمكن ان تكون غير ما هي عليه، ذلك أن كل الأشياء خلقت لغاية واحدة، ولا بد انها خلقت بالضرورة من اجل الغاية الأفضل. لاحظوا على سبيل المثال ان الأنف صيغ من أجل النظارات، ولذلك نرتدي النظارات، والسيقان لغرض الجوارب ولهذا نرتدي الجوارب. والصخور صنعت لكي تقطع وتشيد القصور، وبالتالي فان سيدي لديه قصر فخم، ذلك ان البارون الأعظم في المقاطعة يجب ان يكون له أفضل مكان للاقامة. وأولئك الذين يزعمون ان كل شيء صحيح لا يعبرون عن أنفسهم بصورة صحيحة. يتعين عليهم ان يقولوا ان كل شيء هو الأفضل».

ولم يستشهد خاتمي الذي قام بـ 63 زيارة الى 34 بلدا خلال ثماني سنوات ببانغلوس أبدا. وبدلا من ذلك حاول أن يمارس تأثيره على الجمهور باقتباسات من هوبز وهيغل ولوك وفيورباخ ونيتشه وهابرماس من بين آخرين، ثم تقدم ليخبرنا بأن العالم المثير للشكوك الذي خلقه النظام الغريب الخميني هو «النموذج الكامل للحكم» لكل البشرية. والطريف أن خاتمي فاز في الانتخابات الأولى بقائمة ضمت 10 وعود كان أولها «الحفاظ على حكم القانون». ولم يتحقق ذلك.

فقد شهدت فترة رئاسته سلسلة من أعمال القتل سيئة الصيت، حيث قتل وبوحشية ما يزيد على عشرين من المعارضين والمثقفين، بينهم داريوش فوروهار، الوزير السابق في حكومة الخميني الأولى، وزوجته بروانه وقد قطع رأساهما وعرضا على جدار غرفة الاستقبال في بيتهما. ووعد خاتمي بجلب مرتكبي الجريمة أمام العدالة ولكنه اخفق. كما أخفق في اعتقال ومعاقبة أولئك الذين قتلوا زهرة كاظمي الصحافية الكندية الايرانية الأصل في سجن ايفين سيئ الصيت بطهران.

ولم يرفع خاتمي إصبعا لمنع اغلاق ما يزيد على 100 صحيفة ومجلة، كافح الكثير منها في سبيل انتخابه، ولمنع الاعتقالات الكيفية لعشرات الصحافيين. وأخيرا فان خاتمي كان ينظر في الاتجاه الآخر بينما كانت الحركة الطلابية، التي كانت قد تشكلت أساسا لدعم اصلاحاته الموعودة، قد سحقت وسجن الآلاف من النشطاء.

وكان وعد خاتمي الثاني «انعاش الاقتصاد الوطني». ولم يتحقق ذلك ايضا. فايران أكثر اعتمادا على ايرادات النفط في الوقت الحاضر، بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل ثماني سنوات. واذا ما وضعنا جانبا الارتفاع الحالي في اسعار النفط، فان متوسط دخل الفرد السنوي اقل بنسبة 4 في المائة بالمقارنة مع ما كان عليه عام 1997.

غير أن ايا من هذه الاخفاقات لا يمكن إلقاء اللوم فيها على خاتمي، لأنه وفي ظل الدستور القائم، لا يعتبر الرئيس سوى نوع من رئيس وزراء، ذي وظائف بروتوكولية الى حد كبير في نظام ملكي مطلق.

أعرف انني قد أثير غضب كثير من الايرانيين بقولي هذا. ولكنني أعتقد ان تجربة خاتمي مفيدة لإيران. فقد أظهرت ان الخمينية تتعارض مع الديمقراطية، وان الجمهورية الاسلامية لا يمكن أن تتحقق ما لم تعتزم أن تكون.

وما دام خاتمي كثير الاستشهاد بنيتشه أكثر من أي فيلسوف اسلامي، فدعونا أيضا نسعى الى دعم مؤلف «هكذا تكلم زرادشت».

فنيتشه يقول: ما لا يقتلني يجعلني أقوى!

وهذا صحيح بالنسبة لايران في نهاية تجربة خاتمي.