العبدة وحقبة «ما بعد الجماعات» !

TT

لا شيء أصدق من الصوت النابع من داخل الذات، خاصة في تقييمها لماضيها ومحاكمتها لتاريخها، هذه «الثيمة» بدأت تطفو على سطح مداولات الحركات الإسلامية، وعبر مراجعات يكتبها أشخاص من داخل الحركة. ولعل من آخر ما قرأته في هذا السياق مراجعة من العيار الثقيل، بسبب حجم كاتبها وهو «محمد العبدة» الاسم الحركي البارز في ما اصطلح على تسميته تيار «السرورية» ، الذي يعد مزيجاً من حركية الإخوان المسلمين وحرفية وتقليدية التيار السلفي. يدعو العبدة وهو من أشهر تلاميذ محمد سرور زين العابدين، الرمز الأول في هذا التيار، الذي نسب إليه تدشين حقبة جديدة في تاريخ جماعات الإسلام السياسي، هي حقبة «ما بعد الجماعات»، والتي عنون بها مقالته التي نشرها في موقع «الإسلام اليوم» على الانترنت، والتي تهدف إلى محاولة استعادة «أمة لم تعد لها كلمة مسموعة، وليس لها ثقل سياسي تفرضه على الآخرين» هذه الحقبة في نظر العبدة يجب أن تتجاوز أخطاء الماضي التي وقعت فيها هذه الجماعات، وأهمها من وجهة نظره «جراثيم الحزبية» التي يعتبرها مرضاً عضالاُ «أضر كثيراً بالجماعات الإسلامية ،لأن الفرد داخل الجماعة يُقال له: منهجنا هو الأصوب» وبالتالي «سيكون إنساناً منغلقاً متعصباً لجماعته، لا يقبل بسهولة ما عند الآخرين، والطريقة الحزبية تكون دائماً لاهثة وراء كسب الناس، فإن لم ينصتوا إليها تقوقعت على نفسها واتهمت الآخرين».

ويضيف العبدة لهذه الآفة مشكلة «القيادة» الدكتاتورية التي تعامل الأتباع على مبدأ الانقياد والتبعية، فـ«الذي يتقرب من المسؤول أو على الأقل يسكت، فهو المرضي عنه ويصعد إلى أعلى المسؤوليات، وأما الذي يناقش ويسأل فهو (مشاغب) غير منضبط، ولا يفهم السرية والعمل الحركي ويجب أن يُفصل!»، ولا تقتصر خطورة القيادة المتسلطة على تذويب الأفراد لتنصهر داخل عقلها الجمعي بل يتجاوز ذلك إلى إجهاضها لكل تساؤل أو اختلاف مع منهج الحركة. العبدة، مع آخرين ممن كتبوا مراجعات للحركة الإسلامية المعاصرة من الداخل، يلامسون المشكلة في أطرافها وعرضها ولا يتناولون جوهرها، فنقدهم لا يتجاوز رصد ظواهر مرضية مع إغفال جذور العطل في الأسس التي قامت عليه هذه الجماعات، والتي أعادت إنتاج الإسلام وفق رؤية صدامية آيديولوجية، تستمد جذوتها من شعارات طوباوية مفترضة.

أنها تقود «الأمة» وتتحكم في مصائرها، مع أنها لا تملك أحقية تمثيل الجماعات المنافسة لها، فضلاً عن دعوى الحديث باسم المجتمعات، فنحن نعلم أنه منذ نشوء هذه الحركات المعاصرة وهي تعيش حالة من التشظي والانشطار لمحاولة التكيف مع المستجدات التي يفرزها الواقع بدون مساءلة للمقولات الأساسية التي اكتسبت هذه الجماعات كينونتها عبرها; إنْ في رؤيتها التغييرية للعالم أو حتى في مواقفها الآنية من التحولات المتجددة والتي تحاصر مشروعيتها ومدى صلاحية بقائها فاعلة على الأرض.

السؤال الحقيقي الذي تغيبه هذه المراجعات هو: هل يمكن لهذا الجسد الخداج الطارئ على نمو الأمة المسلمة الطبيعي، أن يظل على قيد الحياة وهو يحمل مسببات موته معه، بدل أن يشتغل رموز هذه الجماعات في الوسائل التي تعزز من شعبيته وتحويله من طور الشبكات ذات الآيديولوجية الواحدة، إلى التيار الشعبي السائد، كما يبشرنا به «العبدة» في محاولة للقفز على سنة الواقع الماضية التي تؤكد أن «البقاء للأصلح».