أزمة الأخطاء المتبادلة في حركة فتح

TT

تقوم حركة فتح بقيادة السلطة الفلسطينية، وهي من موقعها هذا قامت بالإعلان عن تأجيل انتخابات المجلس التشريعي. ثم قامت حركة فتح من موقعها هذا بالإعلان عن تأجيل موعد عقد مؤتمر الحركة. وبين هذا وذاك اقترح الرئيس محمود عباس أن يتم استحداث منصب نائب للرئيس، ويجري حاليا إعداد الدراسات القانونية اللازمة من أجل ذلك.

تعكس هذه القرارات حالة أزمة داخلية عميقة تعيشها حركة فتح، وهي تؤجل بهذه القرارات مواجهة استحقاقاتها، لأن صيغة الحل، أو صيغة الطريق الجديد، لم تكتشف بعد، أو لأن الصيغ المطروحة من هذا الفريق أو ذاك لم تحظ بالموافقة المطلوبة.

ما هي الأزمة في حركة فتح؟ وهل يمكن حلها باتفاق حول مشكلة ما؟ الجواب هو لا. بدليل قرارات التأجيل المتلاحقة. والجواب هو لا. طالما أن البحث يدور بالطريقة التي دار فيها حتى الآن.

السائد في حركة فتح، لدى أي فريق والفريق المواجه له، أن هناك مشكلة حول وزارة الخارجية مثلا، وهل تكون تابعة للسلطة الفلسطينية أم لمنظمة التحرير الفلسطينية، ويحتاج الأمر إلى لقاء من أجل حل هذا الإشكال. أو أن هناك مشكلة حول من هو العضو في حركة فتح؟ وتأثير ذلك على من سيحضر مؤتمر الحركة، المؤيدون للقيادة الحالية أم المؤيدون للمعارضين المتحصنين داخل (اللجنة الحركية العليا)، ويحتاج الأمر إلى تفاهم حول الصيغة التنظيمية للمؤتمر. وهكذا... يتوالى تعداد مشاكل الحركة، ويتوالى الاصطفاف مع رأي ضد آخر، من دون أن تنفتح أية كوة تبشر بحل المشكلة. لماذا؟ لأن منهج البحث لدى الطرفين ينطلق من النقطة الخطأ. المنهج السائد: هناك مشكلات تحتاج إلى اللقاء والتشاور من أجل حلها. والمنهج الصحيح والغائب: إن حركة فتح تحتاج إلى إعادة بناء (إعادة النظر في أسس التكوين)، لا إعادة تنشيط وتفعيل (انتخابات، ومؤتمر، وانتخابات ... الخ). ولنذكر مثلا أساسيا من أجل التوضيح فقط.

من يملك سلطة القرار في حركة فتح؟ إنها اللجنة المركزية التي أسست الحركة عام 1965 (11 ـ 12 عضوا)، والتي أضافت إلى نفسها أعضاء جدداً في مؤتمر العام 1990 في تونس، وقضى منهم من قضى (.... الحمود، محمد يوسف النجار، كمال عدوان، سعد صايل، خليل الوزير، صلاح خلف، هايل عبد الحميد، خالد الحسن، وأخيرا ياسر عرفات). إن قيادة حركة فتح هي التي تملك القرار السياسي والعسكري والمالي والتنظيمي وكل ما قد يخطر على البال من قرارات، ولا توجد أي جهة داخل حركة فتح تشارك هذه القيادة في قراراتها. نعم. هناك تشاور، وهناك استمزاج آراء، وهناك مناقشات ربما مع المجلس الثوري لحركة فتح، ولكن القرار في النهاية هو قرار اللجنة المركزية. لم يوجد في حركة فتح منذ تأسيسها تنظيم هرمي (بأي صيغة من الصيغ) يجعل كل عضو من أعضاء التنظيم مساهما في اتخاذ القرار (كل حسب حجمه وموقعه). التنظيم الهرمي يتيح للعضو أيا كان أن يوصل رأيه إلى القيادة وأن يتلقى جوابا عليه. والتنظيم الهرمي يتيح للقيادة أن تناقش تقاريرها وخططها مع جميع الأعضاء، على أن يتم البت بعد ذلك في مؤتمر عام يعقد من أجل اتخاذ القرارات التي ساهم الجميع في مناقشتها. والتنظيم الهرمي يقدم آلية لترفيع القيادات أو لتغييرها. هذه الصيغة لم تعرفها حركة فتح، وعرفت بدلا منها صيغة أخرى تقوم على أساس «الأقاليم» و «الأجهزة»، فهناك إقليم الأردن، وإقليم سوريا، وإقليم العراق، ولكل إقليم مفوض حاكم بأمره. وهناك الجهاز العسكري، والجهاز المالي، وجهاز الإعلام، وجهاز التعبئة والتنظيم، ولكل جهاز مفوض حاكم بأمره. وقد تم اختيار هذه الصيغة لأن المطلوب هو قيادة حركة ثورية مسلحة تحتاج إلى أجهزة تلبي طلباتها. وتم اختيار هذه الصيغة لأنها تمنع الانشقاقات، وبخاصة بعد أن امتلأت الساحة الفلسطينية بتنظيمات هرمية انشقت تنظيما وراء الآخر. وحين وقعت انشقاقات داخل حركة فتح، ما كان يمكن لها أن تعيش إلا بدعم خارجي، ولذلك فشلت أو تلاشت أو ضعف تأثيرها. وسواء كانت هذه التفسيرات صائبة أم لا إلا أنها هي التي اعتمدت لتبرير ما هو قائم.

شذ عن هذه القاعدة تنظيم الحركة الذي نشأ في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي التنظيم الذي نشأ في ظل الاحتلال وفي ظروف العمل السري، وكان طبيعيا أن يتخذ شكلا تنظيميا مختلفا عن الأشكال التي بنيت لتعمل في بيئة علنية مساندة ومؤيدة. وكان هذا التنظيم يتبع تاريخيا لما كان يسمى «جهاز الداخل» أو «جهاز الغربي»، ويتلقى منه الأوامر والتوجيهات، وما يحتاجه من الدعم العسكري أو المالي. وأسندت هذه المهمة أولا إلى كمال عدوان، ثم إلى خليل الوزير،، ثم إلى الرئيس الراحل ياسر عرفات. وقفز هذا التنظيم إلى موقع متميز حين استطاع أن يلعب دورا رئيسيا (وبإشراف وتوجيه من الخارج) في قيادة الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1993). عام 1993، وبعد توقيع اتفاق اوسلو، تلاقى هذان الجسمان التنظيميان لأول مرة. تلاقيا وما كان لهما أن يندمجا، ذلك أن كل هيئة تقوم على أساس يختلف جوهريا عن الآخر، ولكنهما تعايشا، وساعدت على هذا التعايش الشخصية المهيمنة للرئيس الراحل ياسر عرفات، صاحب الكلمة المسموعة لدى الجميع حتى لو كانوا غاضبين أو رافضين. وداخل إطار التعايش هذا، كبرت قيادات تنظيم الداخل، كبرت بالعمر وبالعلم وبالممارسة وبالتجربة السياسية، وبدأت تتساءل عن موقعها في القيادة، وعن دورها في صنع القرار، ووجدت أمامها سدا عمره أربعون عاما.

هنا بدأت المشكلة. وهنا بدأت هذه الكادرات الشابة تطلب حقا طبيعيا لها، ولكن هذه الكادرات الشابة بدأت تخطئ في أسلوب عملها. ظنت أن قيادة حركة فتح التاريخية «العائدة» إليها من الخارج هي التي تقطع الطريق عليها حفاظا على نفسها وعلى موقعها القيادي، وظنت أن الشعار الصحيح المطلوب هو الدعوة لـ «إزالة» هذه القيادة وتنحيتها والحلول مكانها. بالمقابل ... واجهت قيادة حركة فتح هذه الحملة بالصد، راقبت الأخطاء التي وقعت بها القيادات الشابة وبنت عليها، وقالت إن هذه مواقف لا يمكن قبولها.

وهكذا نشأ وضع مواجهة لا يمكن أن يقود إلى أي تفاهم. وسيبقى هذا الوضع قائما إلى أن تدرك قيادة حركة فتح بأن الشكل التنظيمي الذي بنيت عليه الحركة لم يعد ملائما ويحتاج إلى تغيير جذري، وهو وضع لا يتمكن من استيعاب كادرات قيادية جديدة، ويشعر إزاءه أي قيادي شاب أن أمامه طريقا مسدودا. وسيبقى هذا الوضع قائما إلى أن تدرك القيادات الشابة في حركة فتح أن القيادة الأصلية لا تعمل من أجل منع القيادات الشابة وسد الطرق أمامها، استئثارا منها بموقع القيادة، إنما هي تترجم وضعا سائدا، ولا تستطيع تغيير هذا الوضع القديم والسائد بجرة قلم، وإلا أصيبت الحركة بالمزيد من التصدع.

ولن يمكن إيجاد حل في النهاية، إلا إذا اجتمع الطرفان، وقررا دراسة بنية حركة فتح، وتسجيل ما هو مقبول منها وما أصبحت هناك حاجة لرفضه وتجاوزه، ليقوم على أساس هذا الفهم والتحليل بناء جديد لحركة فتح، يستوعب آلاف المناضلين في الخارج ويعبر عنهم، كما يستوعب آلاف المناضلين في الداخل ويعبر عنهم. ويبني آليات جديدة لاتخاذ القرار، ويوجد هيئات تنظيمية أخرى إلى جانب اللجنة المركزية تشارك في النقاش وفي اتخاذ القرار. وبكلمات أخرى نقول: إن حركة فتح تحتاج إلى إعادة بناء يتناسب مع الأوضاع الجديدة التي برزت بعد اوسلو.

من خلال بحث من هذا النوع، يتجه الجهد نحو البناء والتطوير، ويتقلص منهج الاتهامات، ويفضح من يصر على توجيه الاتهامات نفسه ويضعها خارج إطار البحث الجاد لإعادة تكوين حركة فتح.

[email protected]