من العراق إلى السودان.. بعض دروس غابت عنا

TT

يصعب تقدير الحجم الهائل من الجرأة المطلوب لسفر قيادات الاتحاد الأوروبي إلى بغداد، وتعليم العراقيين كيفية صياغة الدساتير وتحقيق الإجماع، ولكن التقييم توافر لجاك سترو وصحبه، فقد قاد جاك سترو وزير خارجية بريطانيا، الدولة التي لم تكتب أبدا دستورها، وفدا من الشخصيات الأوروبية وتوجه إلى بغداد في 9 يونيو (حزيران) الحالي، بعد أكثر من أسبوع تقريبا من رفض الناخبين في فرنسا وهولندا مسودة دستور الاتحاد الأوروبي بأغلبية كبيرة.

وناقش الأوروبيون المساعدات المالية للعراق وعرضوا تدريب موظفي الحكومة. ثم حث سترو، في مقابلة تلفزيونية، العراقيين على الالتزام بالموعد المحدد لاستكمال دستورهم الفيدرالي، وهو 15 أغسطس (آب)، والاهتمام بأن يكون شاملا، بحيث يقدم ميزات خاصة للأقلية السنية.

ولا أريد أن لا أريد الخوض في الطريقة التي أساء بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك ونظراؤه الأوروبيون، توجيه النقاش والاقتراع حول الدستور الأوروبي. فقد تحدوا المقترعين تقريبا لمعاقبتهم على مشاكل القارة الاقتصادية والاجتماعية الملحة، وشعر المقترعون بسعادة بالغة في مواجهة هذا التحدي.

ولكن هناك ظاهرة أكبر تتبلور، فهناك قوتان تسيران معا حول العالم اليوم، تعيدان تحديد طبيعة القوة والقبول المعلوم في الديمقراطيات الصناعية.

القوة الأولي هي تفتيت المعلومات والإدراك العالمي، فنحن «نعرف» أكثر ونفهم أقل مع مرور كل يوم. المعلومات أصبحت متفرقة في أدمغتنا في شرائح إلكترونية معبأة في كبسولات على الإنترنت أو الإذاعات ، فيما تتحلل ببطء وبطريقة غير منتظمة، هذا إذا كانت تتحلل على الإطلاق.

ولا أذيع سرا إذا قلت إنني، كصحافي، أقاوم، دائما فكرة احتمال أن نصبح أكثر علما. غني للغاية ونحيل للغاية، نعم، هذه التناقضات ذات الايقاع اللطيف يحتمل أن تكون ذات مغزى، غير أن هؤلاء الذين يعارضون التقدم اإالكتروني هم الذين يرون الخطر المدني في الكم الهائل من المعلومات.

وبالرغم من ذلك فإن المواطنين حول العالم يواجهون صعوبات متزايدة لتجميع بعض المبادئ العامة، علهم يستوعبون من خلالها العمليات الانتحارية وأزمات الحكومات البعيدة، والاحتجاجات العنيفة التي تدعي بأنها تحمي البيئة وتساعد ضحايا الايدز، وغيرها من الأحداث الدرامية التي تصبح معروفة بسرعة عن طريق وسائل الإعلام التي باتت متطفلة.

ولكن وفي المقابل، وعندما لا يفهمون معنى ما يقال، فإنهم يلقون باللائمة على قادتهم لتظهر قوة تغيير ثانية ذات صلة بالأمر، ذلك أن المواطنين كثيرا ما يقاومون تركيز السلطة في يد حكومات تبدو بعيدة تماما من ناحيتي المسافة والسلوك على حد سواء.

من هنا كان بوسع شيراك أن يكون صاحب أداء مثالي حتى في حال خسارته نتيجة الاستفتاء، الذي تركز حول زيادة سلطات وصلاحيات محاكم، تتعدى حدود الدول ومؤسسات أوروبية أخرى مقطوعة الصلة بالسياسة المحلية.

أما طبيعة الفيدرالية فهي مختلفة في العالم الثالث، وهذا هو السبب في احتمال إدراك سترو للمزيد حول بناء الإجماع وشراكة السلطة من خلال الإصغاء خلال رحلته إلى العراق، بدلا عن الحديث. الفيدرالية مسألة يجب أن تؤخذ بكل جدية في أماكن مثل العراق والسودان، لأنها مسألة بقاء.

جون قرنق، الزعيم السوداني الجنوبي، الذي توصل إلى اتفاق مع حكومة الخرطوم، مُنِحَ الجنوب بموجبه حكما ذاتيا واسعا، ونص على شغل قرنق منصب نائب الرئيس في حكومة ائتلافية من المقرر تشكليها الشهر المقبل. وقد أوضح قرنق هذه النقطة خلال حديث في وقت سابق من هذا الشهر. وعندما سألته عن احتمالات عدم التزام سلطات الخرطوم بالاتفاقية التي جرى التوقيع عليها بين الجانبين، وضمانات عدم التنصل منها، أجاب قائلا إن الاتفاق الأخير نص على الاحتفاظ بجيش الحركة تحت قيادة جنوبية خلال السنوات الست المقبلة، قبل أن يصوت الجنوبيون على استمرار الحكم الذاتي أو تقرير المصير.

وفي العراق تسعى الأقلية الكردية إلى الحصول على نفس ضمانة الاعتراف الفيدرالي بقوات البيشمركة، على أن يكون منصوصا على ذلك في الدستور الجديد، فسنوات من نزيف الدم على أيدي الحكام الدكتاتوريين أفقدت الأكراد الثقة في الحكومات المركزية القوية، ودفعتهم للمطالبة بتوسيع الحكم الذاتي، على أن يوفروا له الحماية بأنفسهم.

صياغة الدستور في مثل هذه المجتمعات ربما لا تحدث بدون إراقة دماء. كلنا، وربما الأوروبيون خصوصا في الظرف الراهن، يجب أن نقاوم إغراء محاولات تعليم العراقيين أو الجنوبيين في السودان، أو أي مجموعات أخرى كيفية الثقة في الحكومات المركزية.

* خدمة مجموعة كتاب «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»