أيام فاتت

TT

عانى الموظفون والمعلمون من شظف العيش في ظل النظام البعثي في العراق ومن القلق والخوف المستمر. فقدوا مكانتهم وهيبتهم التقليدية . لم يكن شأنهم كذلك في العهد الملكي. كانت الدولة توليهم اهتماما خاصا. ولذلك حكايات ووقائع طويلة منها حكاية الكمامات التي نسيها الناس الآن. عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تخوف الانجليز من احتمال استعمال هتلر الغازات السامة. فأصدروا كمامات لكل الشعب البريطاني. طالما قيل ان الشيوعيين كانوا يخرجون من بيوتهم بالمظلات ويفتحونها فوق رؤوسهم حالما يسمعون بأن السماء أمطرت في موسكو. انطبق ذلك على حلفاء بريطانيا في البلاد العربية. ما ان سمعوا بأن الانجليز لبسوا الكمامات في لندن حتى بادروا باستيرادها للعراق. بيد ان التاجر المستورد لم يحسب حسابا لتقاليد الشعب الذي يعتز رجاله بشواربهم اكثر من حياتهم. كان العيب في الكمامة انها لم تأخذ بنظر الاعتبار شوارب ابو جاسم. فلم يشترها أحد. فضلا عن ذلك فأبو جاسم يؤمن بالقضاء والقدر و«اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين. يعني هي الكمامة تخلص الانسان من الموت»؟

ولكن التاجر المستورد، عرف كأي تاجر مستورد آخر في الشرق الاوسط، كيف يعالج مشكلته. بعد لقاء اخوي وجيز في فندق السندباد مع احد المسؤولين، صدرت الاوامر بأن على كل موظف في الدولة ان يشتري كمامة. الطريف في الامر ان التوزيع الجبري للكمامات اقتصر على الموظف فقط. اذا قرر هتلر رمي الغازات السامة على بغداد، فلا ضير في ان يموت سائر الشعب على ان يبقى الموظفون في قيد الحياة، مما يدل على المكانة الكبيرة التي اعطتها الدولة لهم وحرصها على سلامتهم.

لحسن الحظ، ان هتلر لم يعرف اين هي بغداد ليضربها، والا لهلك الجميع ولم يبق بيد صدام حسين غير الموظفين يحارب بهم ايران. وطن كامل ليس فيه غير الموظفين المدنيين. وهذا ما اشرت اليه عن مدى حرص العالم العربي على حياة الموظف. وهو شيء طبيعي فبدونهم لا يستطيع المسؤولون الحصول على اي رشوات من الشعب.

عاد والدي ـ رحمه الله ـ ذات يوم وبيده صندوق مقوى. فتحناه فاذا بنا نواجه هذا الشيء لأول مرة في حياتنا! الكمامة تلاقفناها نحن الاولاد ورحنا نلبسها ونخيف بعضنا بعضا بها، ثم خطر لي خاطر. ماذا سيحدث لقطتي براقش اذا ضرب هتلر مدينة بغداد بالغازات السامة؟ انها احق منا جميعا بالكمامة. فأسرعت اليها وبذلت المستحيل لتركيبها على رأسها المدور. ولكن براقش كانت قطة عراقية اصيلة. آمنت بالقضاء والقدر، ورفضت بإباء لبس الكمامة.

وانتقلنا بعد سنوات من بيتنا الى الاعظمية فرمت والدتي ـ رحمها الله ـ بالكمامة مع القمامة. وكان ذلك منها سوء تدبير من الدرجة الاولى.

فبعد استيلاء صدام حسين على الحكم، كان بامكاننا ان نبيعها بربح جيد الى الاكراد في حلبجة. وعلى الاقل نكون في ذلك قد انقذنا حياة شخص واحد من مجموع الخمسة آلاف شهيد الذين ماتوا فيها بالغاز السام .