رفقا بالعراقيين

TT

يتسم الشعب العراقي بصفة عدم الرضا على الحكام، ويعود ذلك لأسباب عدة منها، الموروث التاريخي الذي يمكن اختزاله في تاريخ القوة، واختلاف وتناوب الغزاة عليه وقسوتهم، وبسبب ان في بيئته ظهرت وتشكلت اغلب حركات الرأي والاحزاب والملل والفرق، وكون العراق بقي لفترة طويلة من تاريخه مركزاً للتمرد والخروج عن السلطة وما يستتبع ذلك من تنكيل، ولقربه من الصحراء وتصارع البداوة والحضارة على تخومه، ولتنوع مكوناته القومية والدينية والطائفية، ولقسوة طقسه، ولتطرف شخصية ومزاج ابنائه، الا ان عدم الرضا على الحكام وجد استثناء واحداً، عندما حصل شبه اجماع على عبد الكريم قاسم(58 -1963) الذي وان اختلف البعض حول الدموية التي صاحبت ثورته، وبأنها اوقفت النمو الطبيعي للتجربة الدستورية الملكية او الديمقراطية الشكلانية، والتي برغم نواقصها، فان بديلها كان نصف قرن من دوامة العنف وعدم الاستقرار والدكتاتوريات المتعاقبة،او نقداً لصراعات القوى السياسية وثقافة العنف التي نشأت في رحم فترة حكمه.

الا ان هناك سمتين جعلتا قاسم لصيقاً بالذاكرة الجمعية للشعب، الاولى وطنيته التي جعلت منه ربما الحاكم العراقي الوحيد الذي مثل نسيج المجتمع المختلف، والذي لم يظهر انحيازاً طائفياً او دينياً او عرقياً او قومياً او مناطقياً، هذه الانحيازات التي تشرعنت فيما بعد واصبحت ملازمة للثورات المتلاحقة، التي وان بدت في ظاهرها بأنها ثورات وطنية، الا انها لا تعدو ان كانت في جوهرها وثوباً لعصبية غالبة على رأي ابن خلدون. والثانية نزاهته وتعففه وزهده وانحيازه للفقراء، فهو الذي بنى عشرات المدن والاف المساكن للشرائح المختلفة مستثنياً نفسه من تملك او سكن واحدة منها، بل حتى ان العراق لم يعطه مكانا لقبره، وعندما طلب منه ان يحدد الراتب الذي يستحقه، وهل هو راتب رئيس الوزراء، او القائد العام للقوات المسلحة او وزير الدفاع، كونه كان يجمع المناصب الثلاثة، اكتفى براتبه الذي كان يتقاضاه كضابط في الجيش.

الذي جلب هذا الاستذكار للذهن، هو متابعة مناقشات الجمعية الوطنية المنتخبة، التي خصصت راتباً للعضو فيها، يساوي عشرة اضعاف راتب الأستاذ في الجامعة من حملة درجة الاستاذية وبخدمة لا تقل عن 25 سنة، بجانب مخصصات حماية وتنقل وشراء اسلحة حماية وغيرها، حيث انشغل الاعضاء ومنذ الجلسة الاولى بالتحدث عن حقوقهم التقاعدية، وعملوا على وضع التشريعات لذلك، وكأنهم مجلس ادارة شركة يقررون امتيازاتهم بعيدا عن رأي المساهمين، يشرعون حقوقاً تقاعدية لعضو جمعية لن يظل فيها اكثر من ستة شهور. وقد تواصلت الى الأمس المناقشات حول ضرورة ضم حماياتهم الى الجيش وجعلهم يتمتعون بحقوق افراده وضماناته، تكلفات أمنية لجمعية يتغيب اكثر من نصف اعضائها خوفاً من الوضع الأمني، فماذا توقعوا عندما رشحوا انفسهم للانتخابات ؟ وهل امتنع الشرطي الذي اصبح هدفاً للمفخخات يوماً عن الذهاب الى عمله، او امتنع عمال تنظيف الشوارع الذين قتل البعض منهم بالعبوات المزروعة على الارصفة ؟ او غاب التلامذه عن مدارسهم.

الى ذلك كانت الحكومة السابقة قد اصدرت قبل رحيلها قرارات بمنح قطع اراض لموظفي دواوينها، ورواتب تقاعدية لوزرائها بما يعادل 80% من راتبهم اثناء الخدمة، فوزير خدم ربما لشهر او بضعة شهور لم يعرف فيها غير المنطقة الخضراء والمطار، يتمتع براتب تقاعدي طيلة حياته وربما لاحفاده من بعده، مع تخصيص قصور سكنية لهم استورثت من النظام السابق، وبأجر رمزي ولمدد طويلة، وسط سكوت الحكومة الحالية في سياسة تخادم واضحة، او رغبةً على «مأسسة» هذه الامتيازات لتشملهم لاحقا.

المشكل انه في ظل التعددية العراقية، ونوع النظام الانتخابي الذي سيعمل به، والميل الواضح لتبني النظام البرلماني، فان ذلك سيفضي الى ان الوزارات غالباً ما ستكون ائتلافية، وبالتالي وبطبيعتها تكون متغيرة بتغير التحالفات، وهذا سيفرخ بعد فترة مئات او ربما الاف من الوزراء المتقاعدين، مع امتيازاتهم واطقم حمايتهم، مما سيثقل على ميزانية هي اصلا خاوية. اما اذا اخذنا نظام الفيدراليات الخمس او الست التي تعقد المؤتمرات من اجلها، فستكون عندنا انئذ ستة برلمانات مع ست حكومات اقاليم مع محاكم عليا خاصة لكل فيدرالية، وستكون طبقتنا السياسية هي الاضخم في العالم وانذاك فقط ستتوقف شكاوى التهميش.

وقد يقول قائل ان الطبقة السياسية تحتاج لهذه الامتيازات والرواتب وضمانات مستقبلهم لكي يتفرغوا لخدمة الشعب، ولكن هل يصح ان يبدأوا بها ويقدموها على معالجة الخراب الذي يسكن كل زاوية ومرفق في العراق.

فمثل هذه الانشغالات يمكن قبولها لو كانت في دولة تشهد نوعاً من الاستقرار وتيسر الخدمات وتوازن الدخول، اما ان يكون راتب عضو البرلمان ومخصصاته مئتي ضعف راتب رعاية الاسرة الفقيرة، الذي لا يتجاوز خمسين الف دينار شهرياً، في بلد يموت 25% من اطفاله بسبب الاسهال، ومرض السرطان الذي تفاقمت أعداده في غياب توفر العلاج، ناهيك عن الفساد المالي الذي سيقتل امالنا قبل اقتصادنا، كل تلك امان علقناها على سياسيينا المقبلين، ظانين انهم سيحققون لنا المدينة الفاضلة على الارض، فهل كان جهادهم لله ام لدنيا يغنمونها؟ سؤال يتردد لدى العراقيين سرا وعلانية.