الفيدرالية من العراق إلى لبنان

TT

إذا تابعنا ما يجري في العراق الآن، وما مر على لبنان، نلاحظ ان حرباً أهلية عصفت في الثاني شارك فيها غير لبنانيين ايضاً، وشاركت فيها دول كثيرة، انتهت الحرب ولم تنته مشاكل ذلك البلد. وإذا نظرنا الى ما يجري في العراق نجد حرباً أهلية تدور رحاها، وإن (حاول كثيرون إعطاءها اسماء مختلفة)، يشارك فيها الى جانب العراقيين غير عراقيين، وتشارك فيها دول كثيرة ايضاً، في الدولتين جرت انتخابات، خرج البعض منها منتشياً، وخرج البعض الآخر بشعور المغبون، لن اناقش هنا الاسباب، إنما ما اريد الوصول اليه باختصار هو ان الحل الداخلي لمشاكل البلدين قد يكون واحداً، وإذا كان الفضل في العراق في ايجاد الحل يعود للاكراد، فإن الجرأة تنقص اللبنانيين في طرحه، والحل المقصود هو النظام الفيدرالي. في العراق قد تكون الفيدرالية العرقية وأيضا المذهبية هي المناسبة، اما في لبنان فالفيدرالية السياسية هي الافضل، خصوصاً بعد إجراء الانتخابات الاخيرة حسب القانون الانتخابي لعام 2000، وبدء الحديث عن مناقشة المجلس الجديد لقانون انتخابي يرضي كل الاطراف، والأطراف هنا، بالنسبة الى لبنان تعني الطوائف.

إن الوضع في لبنان الذي تجاوز مراحل الحرب الاهلية وانتهى منها بكل تأكيد، لا يعني انه سيسبق العراق في تبني النظام الفيدرالي، ذلك انه، وعلى الرغم من تجدد مناقشة اطراف كثيرة لهذا الحل، وعلى انه الافضل على المدى البعيد، يفتقد اللبنانيون زعيماً شبيها بمسعود البرزاني، لكن العرب عرفوا في التاريخ انتصارات حققها قادة اكراد تنعم العرب جميعا بها، وإن كانوا اضاعوها لاحقاً، ومن منا لا يفخر بصلاح الدين الأيوبي؟

قبل ان يصل الاكراد الى التمتع بالحل الذي سينقذ العراق، من المؤكد أنهم سيعانون أكثر، والسبب ان «الغنائم» المتوفرة في العراق، لبنان مرتاح منها، كما انه انتهى من حربه الاهلية، ومن احتلال اراضيه، ويبقى الصراع على غنائم المناصب وهذا امر طيّب، طالما ظلت كل الخيارات لبنانية، وأصبح اللبنانيون مسؤولين عن كل ما يصيبهم. اما العراق فإن امامه طريقاً طويلاً، وتشهد على ذلك العمليات الانتحارية المتزايدة فوق كل أراضيه،

لا سيما ان المقاتلين السنّة يتحركون الآن كجبهة موّحدة، ويعتبرون ان استمرار القتال بحد ذاته هو الانتصار بعينه، ويشنون هجماتهم ضد الحكومة «العميلة» والشيعة الموالين لايران و«الاكراد الانفصاليين،»! ويبدو أن الاستراتيجية العسكرية للمقاتلين هؤلاء هي منع كل محاولة لاستتباب الوضع في العراق، واذا كان من المستحيل لمرتكبي هذه العمليات ضد العراقيين ان يصبحوا حركة عراقية وطنية، إلا ان لديهم الوسائل الارهابية للاستمرار في زعزعة العراق لسنوات كثيرة، وأكثر ما يشتتهم ان يقرر الاميركيون الانسحاب من العراق، فهذا سيجعلهم يقاتلون بعضهم بعضا،لأن لكل فريق منهم جدول اهداف مختلفا.

هؤلاء يرون في كردستان العراق هدفاً اساسياً آخر يودون زعزعته، ويكاد ما يحدت في شمال العراق يجتاز فعلياً اطار العمليات الارهابية، الى حالة الحرب الاهلية بين السنّة العرب والاكراد، فالوضع اليومي في كركوك والموصل متفّجر: كمائن، واغتيالات وسيارات مفخخة، وقليلة جداً الاحداث التي تقع ولا يجري عليها تعتيم فعلي بحيث لا تصل حتى الى جنوب بغداد، وقد اضطر اخيراً رئيس غرفة عمليات الشرطة في كركوك الكولونيل يدغار شاكير الى عقد مؤتمر صحافي في 17 الجاري، والاعتراف بأنه مقارنة مع العام الماضي، فإن عدد الضحايا بين المدنيين ورجال الشرطة تضاعف كثيراً، هذا لا يعني ان الشرطة تقصّر، بل انها يوميا تواجه وتقوم بتفكيك قنابل الارهابيين قبل ان تنفجر، فكركوك تخضع، بالاسم لسيطرة الاكراد، لكن اكثر ما يريده الاكراد هو التحكم بالنفط الشمالي، وتقع حقول النفط غرب كركوك، وهذا ما يقاومه العرب السنّة. اما الموصل، فإنها مدينة كبيرة (تقريباً 1.8مليون نسمة)، ولا تزال تحت سيطرة العرب السنّة (70 %من السكان)، كما انها معقل القومية العربية والحركات الاسلامية، وقاعدة كبيرة للمقاومة. لا يظهر الاكراد فيها كثيراً رغم وجودهم، لأن المقاومة وافراد الشرطة هناك يأتون من قبيلة الشمّر احدى اكبر القبائل السنية، وتعتمد الاستخبارات الاميركية في حصولها عى المعلومات في الموصل على الاكراد، الامر الذي يُعتبر بنظر السنّة تحاملاً سيؤدي لا بد الى حرب اهلية!

ولأن الاستراتيجية الكردية تحتّم على الاكراد الاستمرار في خطتهم، فإنهم تصرفوا متجاوزين هذا الوضع المتفجر، فأقسم الأسبوع الماضي مسعود البرزاني اليمين الدستورية كرئيس لإقليم كردستان، وتشمل مهامه ايضاً قيادة قوات البيشمركة وادارة الشؤون المالية للاقليم، هذا الامر قد يفتح المجال امام دمج حكومتي الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، وإذا نجح هذا التوجه فإنه يقوّي الوحدة الكردية قبل بدء النزاعات، بين الاطراف العراقية، في ما يتعلق بالدستور. و ينوي الاكراد فعل كل شيء لضم كركوك الى اقليمهم، لكن كان الدستور

المؤقت المعمول به حالياً قرر منعاً مؤقتاً لوضع كركوك، ومنع تحديداً دمجها مع اي حكومة محلية مشكّلة من ثلاث مناطق، كحكومة كردستان. ويبدو ان حل هذه المسألة سينتظر حتى المصادقة على الدستور الدائم في شهر تشرين الاول (اكتوبر) المقبل، او شهر نيسان (ابريل) من العام 2006، اذا ما تأخرت مسودة الدستور عن موعدها، ويتوقع البعض، ان يتأجل بت تقرير الوضع النهائي لمدينة كركوك، وبموجب الدستور المنتظر، لسنوات أخرى. إن هذا لا ينفي ان الحكم الكردي مهتم جداً بتأمين حقه من العائدات النفطية، لا سيما ان الاقليم لم يعد يتسلم الـ 13% من تلك العائدات منذ ان انتهى العمل بالقرار الدولي «النفط مقابل الغذاء»، ولأن الاعتماد فقط على حكومة بغداد يعتبر مغامرة سياسية، لم يعتدها الاكراد، ثم ان القادة الاكراد تواقون لجذب الاستثمارات الاجنبية الى حقول النفط الشمالية.

الامر الاهم في الوضع الكردي، انه اثار قابلية السنّة والشيعة العراقيين ليكون لكل منهم، اقليمه الخاص، فتتحقق عندها الفيدرالية العراقية التي ينادي بها الاكراد منذ زمن. وإذا كان السنّة فكروا في جمع ثلاث محافظات بهدف الحصول على حق النقض اذا ارادوا إسقاط الدستور، إلا ان بعض سياسييهم راقت لهم فكرة جمع محافظات: صلاح الدين، ونينوى والانبار ضمن وحدة أثنية تستطيع فرض طلباتها لاحقاً، على حكومة بغداد الفيدرالية.

من جهة أخرى، ناقش نواب من التحالف العراقي الموحد، إقامة دولة شيعية تضم تسع محافظات وسيطلق عليها اسم «سومر»، هذه الدولة تتشكل من ثلاث حكومات محلية، الاولى تدير شؤون محافظات: كربلاء، والنجف، وبابل،. وتضم الثانية محافظات: واسط، والقادسية والمثنى، اما الثالثة فتجمع محافظات: ميسان، وذي قار والبصرة. الثالثة هذه، التي صارت تُعرف لدى المهتمين بـ «مشروع الكونفيدرالية الجنوبية»، هي الطرح الاكثر جدية الذي يُناقش في الجنوب، ويطالب المسؤولون في البصرة ورجال الاعمال باستقلال اقتصادي اوسع وتحويل البصرة الى مركز تجاري وجعلها «سنغافورة الخليج». يلقى هذا المشروع دعم مسؤولين في المجلس الوطني، مثل نائب رئيس الوزراء احمد الجلبي، وهمام حمودي من المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، وأعضاء من مجموعة اياد علاوي (العراقية) ومسؤولين محليين في البصرة وذي قار، ويعارض فكرة تشكيل حكومات محلية متعددة رجال الدين وعلى رأسهم آية الله علي السيستاني وحارث الضاري رئيس مجلس علماء السنة.

تعودت شعوب منطقتنا ان تأخذ وقتها، وتتقاتل قبل ان تستوعب حلاً لمصلحتها، احيانا كثيرة تضيّع الفرص. لقد أصر القادة الاكراد على الفيدرالية للعراق من اجل حماية شعبهم، هذه الجرأة الكردية، يمكن ان تستفيد منها لبنان وربما دول اخرى في المنطقة.