ونسميها حياة فكرية!

TT

تغيظني مجلة «البيت» الإنجليزية والأميركية، فهذه الصور للبيت ليست في بيتنا، ولا يمكن أن تكون. وعندما أقول بيتنا، فإنني أتحدث عن الجوانب التي تهمني. أو التي أعيش فيها أو أمضيت فيها نصف أو ثلاثة أرباع عمري ولا أتحدث عن غرفة النوم ولا غرفة الطعام ولا قاعات الجلوس وإنما على غرفة مكتبي.

وأسميها غرفة تجاوزا.. وإنما يمكن أن أقول إنها مخزن كتب، فأنا أتخبط فيها يمينا وشمالا واصطدام بها ذهابا وايابا.. فالكتب تحت قدمي وعلى جانبي المكتب وورائي وأمامي.. وأنا اختفي وراءها أو أتوارى منها فيها.. وفي جانب من المكتب، يوجد كومبيوتر وفاكس وهواتف وأدوات إعداد الشاي.. وتحت منضدة الشاي، توجد علب عسل النحل، وهذه بعض العقاقير.. وأكوام من الورق الأبيض، وعلى مكتبي عشرات من الأقلام هدية ممتدة من صديق عزيز ـ رحم الله أياما سعيدة قليلة كانت لنا ـ

وأنا لا أشكو من أن كتبي ليست منظمة ولا منسقة.. فذلك صعب ولا أعرف كيف يستطيع أحد أن يجعل كتبه مثل كتيبة من الجنود يشير إليها أن تقف وأن تقعد وأن تخرج وأن تدخل بإشارة من يده.. أو إذا أراد أن يعرف أشار إليها فانفتحت صفحاتها وخرجت من بين الصفحات كلمات تقول له: «شبيك لبيك نحن جميعا بين يديك»...

ربما يستطيع الكومبيوتر أن يؤدي هذه المهمة، هو فعلا يستطيع ولكنه يوجع العين.. وإذا استطعت ساعة، فلا أستطيع ست ساعات كل يوم، زمان كنت أستطيع أن أعرف أي كتاب من لون الغلاف، مثلا إذا أردت أن أبحث عن كتاب «علم الجمال» للفيلسوف الألماني هيغل استدعيت صورته ليظهر أمام عيني.. انه بالفرنسية في أربعة أجزاء; الغلاف أصفر والحروف بالأزرق.. هذه الترجمة الفرنسية. أما الترجمة الإنجليزية فهي اللون الأزرق الفاتح والكتابة بالأسود..

أما الآن، فقد زاد عدد الكتب عن خمسين ألفا، وفي أكثر من غرفة وقاعة أصبح من الصعب أن اعرفها كلها.. وأصبح من الصعب أن أراها على بعد.. فكان لا بد من السلّم أصعده ومعي بطارية مضيئة وأحيانا منظار مكبر.. ثم اشتريت كاميرا يابانية يستخدمها طلبة الجامعات في قاعات البحث عندما يسلطونها على السبورة ويلتقطون صور ما يشرحه الأستاذ.. وكنت التقط صورا للرفوف البعيدة.

ولذلك لم أعد أطيق النظر إلى مجلات «البيت» لأنها تؤكد لي في كل لحظة ولحظة أن هذا البيت لا أستطيع أن أبلغه أو أصفه هو حبر على ورق ولو انتظمت مكتبتي وانضبطت لوجدت صعوبة في الإقبال عليها والحياة اليومية بينها.. ففيها ومعها لم أر شروق الشمس ولا غروبها ولا الهلال ولا القمر عشرات السنين ـ كأنني تحت الأرض ـ.. أو تحت أنقاض الفكر العالمي.. فأنا من أهل الكهف. نهاري بلا شمس وليلي بلا نجوم وطعامي ورق ودمي حبر.. هل هذه حياة؟ والله لا!