مستقبل الإصلاح السياسي العربي

TT

بالرغم من التحديات التي تمثلها الضغوط الداخلية والتأثيرات الخارجية الدافعة نحو الإصلاح السياسي في النظم السياسية العربية، يبدو أن اضطراب الاستقرار المستديم أمر مستبعد الوقوع، لأن قادة المنطقة أثبتوا أنهم يمتلكون مهارة في الدمج بين أساليب الترغيب والترهيب. فالنظم في الخليج أمكنها أن تكسر شوكة عواصف التيارات القومية العربية، وهياج الحركات اليسارية، والتيارات الإسلامية، لتخرج من بعد ذلك أقوى مما كانت. كما أن مصر وسوريا والأردن فيها أنظمة حكم بقيت تتمتع باستقرار ملفت للانتباه حتى في وجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة.. ويبدو أن الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية سوف يكون بمقدورها، على الأرجح، أن تفتت قوة زعزعة الاستقرار الناجمة عن الإصلاح السياسي التدريجي، على المدى القصير على أقل تقدير. ذلك أن الأنظمة عموماً تحتفظ بقبضة محكمة تماماً على مديات الإصلاح وسرعة إيقاعه، وهذه الأنظمة ترى في الإصلاح السياسي أداة تخدم إستراتيجيتها التي أحسن إعدادها من أجل منح أنظمة الحكم الحالية مزيداً من الشرعية بدون تعريض قبضتها الممسكة بدفة السلطة إلى الخطر وغالبا ما تجد الأنظمة في التحرر أو الليبرالية استراتيجية أكثر مناسبة لها من الدمقرطة، فالدمقرطة بحكم طبيعتها تنطوي على مجازفة أشد خطرا، لأن السيطرة على ما يفضله الناس تكون أكثر صعوبة متى ما أصبح ذلك التفضيل جزءاً من عملية صنع القرار.

وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يتقدم التحرر بوتيرة أبطأ بينما تبقى الحدود المرسومة المعروفة على حالها من دون مساس. علاوة على ذلك فإن مؤيدي النظام الرئيسيين غالباً ما يفضلون التحرر على الدمقرطة، وعلى وجه الخصوص بيروقراطيي الدولة الذين يمثلون دوائر رئيسية في معظم دول العالم العربي. فهم يخشون أن تولِّد الدمقرطة مطالب شعبية صعبة. لذلك فإن التحرر يكون اكثر جاذبية لهم بكثير، طالما أنه يسمح لهم بالتعبير عما يجول بخواطرهم بحرية أكثر، والتجمع على نحو علني وصريح في جماعات، رسمية وغير رسمية. لهذا فإن للأنظمة مصلحة مزدوجة في تعزيز التحرر بدلاً من الدمقرطة: لأنه يمكنها من الإبقاء على سيطرتها على عملية القرار مع مواصلة تلبية مطالب الدوائر الرئيسية في المجتمع. ومن هنا فمن المرجح للاصلاح السياسي البطيء أن يتواءم مع مصلحة الولايات المتحدة في تحقيق اهدافها في المنطقة. فالإصلاح البطيء ينطوي على إمكانية أعلى لاستقراء المستقبل عما هي الحال في الإصلاح السريع، والسبب يكمن في أن قادة الأنظمة يمتلكون هنا قدراً أكبر من السيطرة على العملية تمكنهم من أن يبقوا القوى الراديكالية قيد التحكم. ولكن حتى استراتيجية الاصلاح السياسي البطيء، على أي حال، لا يمكنها أن تنفي تماماً المخاطر التي من شأن الإصلاح أن يضعها في وجه الأنظمة الحاكمة. فالاصلاح السياسي ليس من طبيعته أن يحدد نفسه بنفسه: إذ إن أية تحركات ولو صغيرة باتجاه الإصلاح، ستوجد مطالب للمزيد من الإصلاح، وهو ما اكتشفته دول اوربا الشرقية والاتحاد السوفياتي خلال اواخر الثمانينيات. أما مدى احتمال خروج الإصلاح عن السيطرة فإنه يعتمد إلى حد بعيد على كيفية التجاوب المبكر للأنظمة الحاكمة، مع تصاعد المطالبات بالإصلاح. فالاستجابة القائمة على القهر والإكراه قد تؤدي إلى تثبيط المطالبة المستقبلية بمزيد من إجراءات الإصلاح، بينما يرجح للاستجابة القائمة على المفاوضة والتفاهم لإيجاد حلول تقبلها كل الأطراف شحذ جرأة الجماعات المعارضة وتشجيعها على تقديم مطالب أخرى. وقد نجحت أنظمة الشرق الأوسط الى الآن في احتواء الضغوط الداعية للإصلاح السياسي من خلال اتباعها استراتيجية التعيين الداخلي المغلق والقسر. ولكن هذه الإستراتيجية ليست منيعة من الزلل. فإذا ما تعاظم الإحباط والسخط الشعبيان إلى حدودهما المنذرة، ستتصاعد معهما تكاليف سياسة القهر بصورة متناسبة. وأية ردود قهرية في هذه الحالة من قبل النظام الحاكم قد تؤجج عزيمة جماعات المعارضة على مواصلة مقاومته . علاوة على ذلك، فإن تأثير الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، والاحتلال الذي أعقبها على الديناميكيات السياسية في المنطقة يبقى مبهماً الى الآن، والى حين إشعار آخر. فعلى قدر ما سيبلغه العراق على طريق تكوين مؤسسات ليبرالية وديمقراطية سليمة، سيكون النموذج والمثل لبلدان أخرى في المنطقة.

* كاتب مصري