تساؤلات يثيرها الخرق الإسرائيلي لإنفاذ التهدئة

TT

بليغ وناجح بامتياز، ذلك الكاريكاتير الذي نشرته «الشرق الأوسط» على صفحة الرأي يوم السبت الماضي 25/6 للفنان أمجد رسمي، وصور فيه رمزين لحركة حماس والسلطة الفلسطينية، يتراجعان أمام فوهة دبابة إسرائيلية حتى أوشكا على السقوط في الهاوية. ما أثار انتباهي في الرسم أنه ضم حماس إلى السلطة الفلسطينية في المأزق، واستبعد بقية الفصائل، الأمر الذي يحتمل أكثر من قراءة، تبرز فيها علامات الاستفهام الحائرة، التي أثارتها مواقف حماس خلال الأشهر الأخيرة.

لست أبالي هنا بالعاجزين والكارهين والرافضين لحماس فكرة وأسلوباً، ممن دب بينهم الوهن وآثروا الاستسلام والانبطاح، إنما أكثر ما يعنيني هو انطباعات المقدرين لحماس دورها ونضالها وتضحياتها، واعتبروها علامة مضيئة في سمائنا المظلمة، ورمزاً للصمود والكبرياء والعزة. وإذ لا أشك في أن ثقة هؤلاء في حركة حماس وأملهم فيها لم يهتز، إلا أننا ينبغي ألا ننكر أيضاً أن بعضاً منهم على الأقل تنتابهم الآن مقدمات للقلق والحيرة، من جراء عدة ممارسات استدعت لديهم علامات الاستفهام التي أشرت إليها.

أحدث علامات الاستفهام ومؤشرات القلق تتداعى في ذهن قارئ صحف الصباح هذه الأيام، حين يطالع في ثنايا الأخبار تلييناًَ وتهدئة في حديث الدوائر الأميركية، وتلك التي تدور في فلكها عن حركة حماس، وتصعيداً موازياً في لهجة الحديث عن حركة الجهاد الإسلامي.

مبلغ علمي أن الحركتين تقفان في خندق واحد، ولهما منطلقات واحدة وموقف نضالي واحد، وسياسات تتفق في الإطار العام والمقاصد، وإن اختلفت في التفاصيل. كما أن الحركتين اللتين ضمهما عنوان «المقاومة الإسلامية» أصبحتا من جراء ذلك تمثلان ثقلا له وزنه، حتى باتت مباحثات الفصائل تدور في حقيقة الأمر بين الحركات الثلاث، فتح وحماس والجهاد، هذه الخلفية تدفع المرء إلى التساؤل عما جرى في الكواليس، حتى أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه الآن.

يعلم الجميع أن اجتماع الفصائل الفلسطينية في القاهرة توافق على التهدئة ووقف إطلاق النار في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، لإتاحة الفرصة للسيد محمود عباس لكي يحرك المسار السياسي، أو على الأقل لإبطال ذرائع الإسرائيليين التي ما برحت تتهم المقاومة بتعطيل جهود تحريك القضية، ولم يكن هناك خلاف في اتفاق التهدئة على أمرين، أولهما أن وقف إطلاق النار يجب أن يكون ملزماً للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بمعنى أنه ليس تهدئة من جانب واحد. وثانيهما أن المقاومة لها حق الرد إذا ما واصل الإسرائيليون عدوانهم وانتهاكاتهم.

بعد اتفاق القاهرة، عقد اجتماع شرم الشيخ في أوائل شهر فبراير (شباط)، وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون بين حضوره، وفيه تم الإعلان الرسمي عن وقف إطلاق النار، كما وعدت إسرائيل بإطلاق سراح بعض الأسرى.

ما الذي حدث بعد ذلك؟

هدأت الأمور لبعض الوقت، وشاركت حركة حماس لأول مرة في العملية السياسية، من خلال ترشيح بعض عناصرها في الانتخابات البلدية، وإعدادها للمشاركة في الانتخابات التشريعية (التي أجلت)، لكن الانتهاكات الإسرائيلية استمرت، وحسب الإحصاءات المتوافرة، فإن إسرائيل منذ توقيع الاتفاق في 8/2، وحتى بداية الأسبوع الماضي (أي خلال خمسة أشهر) قامت بـ6983 انتهاكاً، منها 1299 عملية إطلاق نار، سقط خلالها 44 شهيداً، و451 جريحاً. وتم اعتقال 1119 فلسطينياً (وهو رقم يفوق الذين أطلق سراحهم وعددهم 900 فقط من بين حوالي سبعة آلاف أسير). في ذات الوقت أقامت قوات الاحتلال 1501 حاجزا جديدا، وقامت بمصادرة 33803 دونمات من أراضي الفلسطينيين، وأقدمت 58 مرة على عمليات التجريف واقتلاع الأشجار، ولم يسلم الفلسطينيون من اعتداءات المستوطنين، الذين نفذوا بحقهم 246 اعتداء.

كان واضحاً التركيز على عناصر الجهاد الإسلامي في الخروقات الإسرائيلية، حيث تمت ملاحقتهم في الضفة والقطاع بالاغتيال والاعتقال، وسقط منهم خلال الأشهر الخمسة عشر شهداء، بينهم بعض قادة سرايا القدس في الضفة، كما تم اعتقال 300 شخص منهم (علماً بأنهم استثنوا من قوائم الذين أطلق سراحهم). بل أن السلطة حين قررت الاستجابة لطلب قادة الفصائل الإفراج عن تسعة من عناصر الجهاد كانوا قد اعتقلوا في شهر فبراير (شباط) الماضي (بعد عملية تل أبيب) وأودعوا سجن أريحا، فإنها تراجعت عن قرارها بعد التهديد الإسرائيلي باجتياح المدينة إذا تم إطلاقهم.

في 12/6 اجتمعت لجنة المتابعة العليا للفصائل في غزة لمناقشة الموقف من التصعيد الإسرائيلي وخرقها للهدنة، وبعثت إلى أبو مازن وإلى الطرف المصري الذي كان شاهداً، وساعياً إلى التهدئة، تحثهما على متابعة التزام إسرائيل بالتهدئة التبادلية، وفق ما نص عليه اتفاق القاهرة، وتؤكد على حق المقاومة في الرد على الانتهاكات الإسرائيلية، وجاء الرد الإسرائيلي على لسان وزير الدفاع وعسكريين آخرين، ممن دأبوا على التصريح بأن حركة الجهاد خارج التهدئة وأن استهدافها سيستمر!

وإذ مارست فصائل المقاومة «ضبط النفس» طول الوقت، إلا أن استمرار التصعيد الإسرائيلي دفع بعضها إلى ممارسة حق الرد، فأطلقت عدة صواريخ على بعض المستوطنات والمواقع الإسرائيلية، واشتركت سرايا القدس التابعة للجهاد في ذلك مع كتائب الأقصى وكتائب أبو الريش، وعلى إثر ذلك أخذت حكومة شارون قرارها بالعودة إلى سياسة الاغتيالات، وتصفية قيادات الجهاد على وجه الخصوص.

مقابل الإعلان والتهديد الصهيوني بتصفية قيادات الجهاد والمقاومة، أصدرت خمسة أجنحة عسكرية (سرايا القدس، كتائب الأقصى، لجان المقاومة الشعبية، كتائب أبو الريش، كتائب المقاومة الوطنية التابعة للجبهة الديمقراطية) بياناً هددت فيه بالرد على أية جريمة يرتكبها العدو ضد قادة المقاومة.

اللافت للنظر أن كتائب القسام التابعة لحركة حماس لم توقع على البيان، وكذلك الجبهة الشعبية، وكانت تلك من المرات النادرة التي ترددت فيها قيادة حماس في اتخاذ خطوة من هذا القبيل، كانت ضمن ما تم الاتفاق عليه في القاهرة.

وهي مصادفة لا تخلو من دلالة، أن يتأخر توقيع حماس على البيان، في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل قمع عناصر الجهاد، وهو ما تجلى في استهدافها مجموعتين من كوادر الجهاد، أطلقت عليهما الصواريخ لتصفيتهما، وشاء الله أن تفشل المحاولتان.

إنني أفهم موقف السيد محمود عباس وحساباته، ولا أستبعد قبوله بمبدأ التهدئة الكاملة، حتى مع استمرار إسرائيل في عدوانها، لكنني لم أستطع أن أجد تفسيراً لموقف حماس من بيان الأجنحة العسكرية للمقاومة، خصوصاً أن دلالة عدم توقيعها على البيان «حشرها» رغماً عنها في مربع السلطة، الذي عرفت تقليدياً على أن تحتفظ لنفسها بمسافة منه، ويبدو أن ذلك الظن ـ لا تنس أن بعضه اثم ـ هو الذي دفع زميلنا أمجد رسمي لأن يضعها إلى جانب رمز السلطة في موقف التراجع أمام فوهة مدفع الدبابة الإسرائيلية، الأمر الذي أوصلهما إلى حافة الهاوية.

إن لحماس في أعماقنا تقديراً واعتزازاً لا حدود له، ولها في أعناقنا حقوقاً كثيرة، أحدها أن نحسن الظن بها، وأن ننصرها ونقف معها في كل أحوالها، وهي مظلومة بالمساندة والتضامن، وهي ظالمة بالأعذار وبالنصح. وهذه الخلفية تشجع مثلي ـ قبل أن يتخذ موقفاً ـ على أن يحاول أن يعرف بالضبط هل هي في الوقت الراهن ظالمة أم مظلومة، على الأقل حتى أحدد البوصلة التي أهتدي بها في نصرتها.