الوجوه الأربعة لمقتل جورج حاوي!

TT

أصبح المشهد معتادا; فقد انفجرت العبوة الموضوعة تحت المسافر الأمامي في عربة السيد جورج حاوي، ومعها تمزق جسد الرجل وتغطى وجهه بالدماء، وذهبت روحه إلى بارئها بعد فترة قصيرة. وعلى مسافة ليست بعيدة من الانفجار كان الشخص الذي ضغط على جهاز التفجير عن بعد قد شعر بامتنان لكفاءته في تنفيذ المهمة، فقد تم اغتيال رجل كان وجوده في الحياة معوقا بشكل ما لمن أرادوا التخلص منه، وربما لم يكن معوقا لأمر على الإطلاق، وإنما المسألة هي أن مقتله يمثل تحذيرا وإشارة لكثيرين، ومن يعلم فربما لم يكن حتى ذلك مقصودا، ففي الغموض وضرب الأخماس في الأسداس والفوضى ما يفي أحيانا بالغرض. وبعد انسحاب صاحبنا، ينفرج المسرح اللبناني عن مسرحية مألوفة، وخلال فترة قصيرة من الزمن تم اغتيال رفيق الحريري، وتلاه وبنفس الطريقة الصحفي سمير قصير، وبعد أسابيع أقل كان بطلنا قد أصبح جزءا من قائمة قيل إن سوريا تستهدفها.

أو كان هذا على الأقل ما شكل رد الفعل الأولي بعد دقائق وساعات قليلة من الانفجار، حيث ظهرت استحالة فصل الحادث عن العلاقات السورية اللبنانية القلقة على صفيح ساخن من الاتهامات، التي بدأت باتهام دمشق بمحاولة اغتيال النائب مروان حمادي منذ شهور، وانتهت بتفجير معدة جورج حاوي منذ أيام. ويستحيل ألا يكون الوجه الأول لأية قضية فى لبنان غير مرتبط بالجار الأقوى، والذي قال رئيسه بوضوح إن مغادرة العسكر السوري لا تعني مغادرة سوريا للبنان. ولكن المدهش في هذا الوجه أنه أشبه بالعملة التي تستعمل على وجهيها، فلا تكون المسألة هي أن سوريا تريد الانتقام من أعدائها; ولكن المسألة هي تجهيز الحالة السورية للتغيير بتلطيخ السمعة وتشويه الوجه الذي أصبح مكروها، وسببا لتوافق فرنسي أمريكي طال الحنين إليه من الجانبين.

ولكن الوجه السوري للموضوع على جانبيه لا بد أن يفسح الطريق فورا للوجه الإسرائيلي، وفي علاقات الصراع التاريخية الممتدة لا يمكن حضور طرف دون حضور الطرف الآخر. وإسرائيل متهمة في العموم في كل النوائب العربية، ولا بأس من إضافة جريمة قتل جورج حاوي إلى جرائمها الكثيرة، ومن بين الخيارات الكثيرة أمام الحزب الشيوعي اللبناني لإلقاء الاتهامات عمن قتل السكرتير العام السابق، فإن الاختيار وقع على إسرائيل والمتعاونين معها من أنصار الطائفية. وهناك رأي عام لبناني يقول إن إسرائيل قلقة للغاية من وجود حالة استقرار في لبنان، ليس لأن ذلك سوف يجعلها دولة قادرة على هزيمة إسرائيل، أو لأنه سوف يجعل «حزب الله» أكثر قدرة على إقلاقها، وإنما لأن لبنان، وبسبب مواهب أهله غير التقليدية، سوف يكون هو المنافس الرئيسي للدولة العبرية. وبعد «ثورة الأرز» الديموقراطية اللبنانية فإن أسهم لبنان لدى الغرب المتحرق شوقا لحالة عربية ديموقراطية تزايدت بشكل كبير حتى أصبح واقعا ضمن الدول التي طالها «الربيع» من الفصول. وهنا تكمن تحديدا قضية إسرائيل الاستراتيجية، فالهدف قصير الأجل هو إلقاء اتهامات إضافية على سوريا التي تبدو معزولة يوما بعد يوم، ولكن الهدف طويل الأجل هو إضعاف لبنان ومع توالي عمليات الاغتيال هناك سقف يمكن للتركيبة اللبنانية الهشة تحمله، فيحدث الانفجار الكبير الذي يخاف منه الجميع ولكنهم يفعلون القليل لمنعه.

الوجه الثالث لمقتل جورج حاوي لبناني صاف ونقي، تماما مثل «الكبة» اللبنانية والفتوش وغيرهما من «المقبلات» التي بعضها مغريات، وبعضها الآخر معصية. فلبنان في النهاية حالة عربية فريدة لن تجد لها مثيلا في بلدان القبائل أو بلدان الأنهار أو بلدان الجبال; وأهله يعيشون على تلك الحافة الحادة للقاء أوروبا مع العصور الوسطى الشرقية، وعلى هذه الحالة الحادة يعيش الجميع في حالة من التوازن الدقيق لخصته الحكمة اللبنانية في مواقف الصراع بأنه لا غالب ولا مغلوب. وقديما كان المؤرخ اليوناني القديم «ثيوسدوس» قد قال في كتابه عن حرب «البلوبنيز» بين أثينا واسبارطة أنه رغم أن اسبارطة هي التي بدأت الحرب، فإن ارتفاع قوة أثينا كان هو السبب في الصراع، فلم يكن محاربو اسبارطة على استعداد لقبول اختلال حاد في توازن القوى. وفي لبنان لا يوجد أثينيون ولا اسبارطيون ولكن التوازنات التي أقامتها سوريا في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، بدأت تتعرض للاختلال منذ فترة، بعضها نتيجة ضعف شرعية النظام السوري بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد، وبعضها نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق، ولكن الأهم فيها كان انتقال الرئيس الحريري بما له من ثقل اقتصادي وفكري من الحكم إلى المعارضة. وكانت عملية اغتيال الحريري محاولة لتصحيح الاختلال; ولكن المعضلة أن الرجل صار أكثر قوة بعد الموت مما كان عليه وهو حي، وأعيد فرز الساحة اللبنانية كلها من جديد. وربما لم تكن هناك صدفة أن مقتل جورج حاوي جرى في ذات اللحظة التي انتهت فيها الانتخابات النيابية اللبنانية، والتي قادت إلى انتصار كبير للمعارضة، وبدأ المسرح اللبناني كله يستعد للجولة الأخيرة من تصفية الحسابات اللبنانية بمطالبة الرئيس لحود بالانسحاب من الرئاسة اللبنانية، حتى قبل انتهاء فترة التمديد التي قامت على أسنة الرماح السورية. لقد جاءت الجريمة استجابة لحالة من الاختلال السياسي لم يعد ممكنا التسامح معها، وهي مقدمة لعمليات أخرى لتصحيح حقيقة انه قد أصبح هناك في لبنان غالب ومغلوب بالفعل!.

الوجوه الثلاثة لمقتل جورج حاوي أكبر كثيرا من الرجل، حيث تتصارع مقادير وإرادات كبرى بعضها إقليمي، وبعضها دولي، وبعضها تاريخي. ولكن وجه الرجل ذاته يبقى ملفتا في تحرير الواقعة، فقد اكتفى كل من غطى الحادث بالقول إن الرجل كان السكرتير العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، وأضافوا «الذي أصبح من أبرز منتقدي سوريا مؤخرا». وهذه المعلومات لا تفيد كثيرا في فهم الموضوع، فلبنان في النهاية بلد صغير للغاية، وحزبه الشيوعي أصغر ما فيه من أحزاب لأنه يعتمد كثيرا على طائفة الأرثوذوكس الصغيرة العدد أيضا. ومنذ إثني عشر عاما اي في عام 1993 استقال رجلنا من منصبه كسكرتير عام للحزب الشيوعي اللبناني، وقيل إنه تحول لأعمال المقاولات. ومع ذلك فقد كان الرجل أكبر قامة من كل ذلك، وفي ساحة ممتلئة باللاعبين والمقاتلين فإن بروز شخصية ما، حتى على المستوى السياسي والأيديولوجي، فإنه يكون ظاهرة. وقبل انهيار الاتحاد السوفيتي كان الرجل نجما طالما أن موسكو كانت على استعداد لإبرازه ضمن عدد غير قليل من الرفاق البارزين في العالم; وفي أوقات كان بوسعه أن يلعب دورا في الوساطات العربية بين الراديكاليين العرب اليساريين، الذين لم يكفوا عن القتال مع بعضهم في اليمن والساحة الفلسطينية واللبنانية. مثل هذه النوعية من الساسة ربما لم تعد مطلوبة في ساحة سوف يدوس فيها الأفيال على كثير من الزرع عن قصد أو غير قصد، وفي كثير من الصراعات الكبرى فإن الجولة الأولى يكون ضحاياها على الهامش..!