القائم.. دير وبرج ساساني .. فبوابة مفتوحة للإرهاب

TT

«أرفع رأسك أنت في القائم»! شعار أخذ يغزو صفحات الإنترنت الأُصولية. وقبلها كان «أرفع رأسك أنت في الفلوجة»! ولا ندري، علامَ رفعة الرأس؟ أعلى قطع الرؤوس وبقر البطون، أم على ترويع أطفال المدارس، واغتصاب الفتيات والتمثيل بأجسادهنَّ. وكل هذا يقود إلى تعطيل الاستغناء عن معونة الاحتلال، التي يطلبها في الوضع الراهن الناس قبل الدولة. أشارت المعارك الأخيرة، وما اُكتشف من أدوات القتل والعذاب، إلى أن ناحية القائم، أقصى غرب العراق، ما زالت الممر المريح للإرهابيين، يدخلون ويخرجون منها كتائب وأفراداً. وهناك بين تلالها وقراها يتدربون، ويتمرنون على اللهجة العراقية والمزاج العراقي، حتى يسهل عليهم التخفي واقتناص الضحايا.

كانت القائم عبر الأزمنة ثغراً من ثغور العراق القديمة، تفصل بين امبراطوريات عظمى. اكتشفها العالم مؤخراً عبر الفضائيات، ووسائل الإعلام الأخرى. لم يُسمع بها ولا بعشيرة الكرابلة من قبل خارج حدود الأنبار. أحال الدهر تاريخها الضارب في القدم، إلى مجرد ناحية من نواحي عانة القصية، ليس فيها غير تلال ومغارات، وبقايا مرقب بين الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وهذه علة تسميتها بالقائم. وهي حسب «مراصد الإطلاع» غير قائم سامراء «بنيَّة من أبنية المتوكل».

دارت قريباً منها رحى المعارك بين سيف الدولة الحمداني وإخشيد مصر. وقبلها معركة صِفَّين الشهيرة(37هـ). وهناك رفعت المصاحف بين الجيشين. وعبرها تسلل الخوارج، أوالشراة، إلى المدائن والكوفة. حصل هذا ويحصل اليوم، وكأن الزمن قد توقف عن الجريان، والعصور لم تأت بجديد. وحسب «ديارات» الأصفهاني نشأت القائم حول دير عُرف بدير القائم الأقصى، حط فيه هارون الرشيد رحله، وهو يعبر الفرات إلى منتجعه الصيفي الرَقة. وفي تلك الأجواء قال الشاعر:

بدير القائم الأقصى

غزال شادِن أحوى

وإلى جانب الدير هناك «تل أثري على قمته بقايا جدار فيه معالم درج، يُرتقى إلى أعلاه من الداخل». حافظ على اسمه حتى اليوم. لكن أغلب العراقيين يعرفون المكان بالحصَيبة، وهي مركز القائم. قال عبد الرزاق الحسني إثر مشاهدة بقايا المرقب: إنه يشبه برج نمرود ببابل. عموماً جمع برج القائم الأقصى بين مهام العبادة ووظيفة المراقبة. ولم يفت الفرس أن واجهوا أعداءهم المسيحيين بدير ورهبان، فمن عوائدهم أنهم كانوا يحملون القساوسة معهم إلى ميدان المعارك مع الروم.

بعثت مديرية الآثار العامة مندوباً مختصاً لاكتشاف آثار القائم، وقد سجل فيها مواقع أثرية عديدة: تل الجابرية، وسور العنقاء، وتل المانعيات، وقلعة أرتاجي، وجبل المغارات، وقصر البنت. تُنبأ هذه الخرائب عن تاريخ عريق سطرته في المكان الامبراطورية الآشورية ثم الفارسية. ولا يعلم السكان ولا المنقبون لماذا عرفت زاوية من زوايا القائم بخربة اليهودي، ولهم حكايات عجيبة حول قصر البنت. ولم يكشف إحصاء 1957 إلا عن وجود يهودي واحد، فالقائم تبدو على خلاف مناطق الفرات الأعلى الأخرى خالية من الأديان والمذاهب الأخرى.

دارت المعارك في ناحية القائم مع قبيلة الكرابلة بالذات، وهي أحد فروع قبيلة الديلم. وكانت تقطن الرمادي ثم ارتحلت بعكس تيار الفرات، واتخذت من تل الجابرية مهبطاً لها. وهناك عُرفت بالكرابلة. وقصة ذلك، حسب السامرائي في «القبائل العربية»: أن جدهم موسى كان يلعب مع إخوان له لعبة اجتياز خطة يرسمونها حولهم. ولما جاء دوره تكربل داخل الخطة، فقالوا لأفراد عشيرته أولاد المتكربل (رخاوة في القدمين أو السير في الطين)، فكانت التسمية. أحد فروع عشيرة الكرابلة يدعى ألبو عبد الحمد العلي. وضع اللقب على غلاف كتاب حول الجهاد وجد في منطقة الكرابلة. ومن فصوله، حسب «الشرق الأوسط»: «كيف تختار الرهينة الأفضل»، و«شرعية قطع رؤوس الكفار». لكن يستبعد أن يكون أحد آل العلي، وهو لقب كردي أيضاً، مؤلفاً لهذا الكتاب.

يبدو أن دخول الإرهابيين من القائم، واتخاذه قاعدة للكر والفر، أن المكان ما زال يقوم بوظيفة الثغر الحربي، مثلما كانت وظيفته قديماً. فهناك ممر عبر اليابسة وعبر الماء، وتوافر المتعاونين من الجهتين السورية والعراقية. وتلك هي طبيعة بوابات نهايات الحدود، تتبادل فيها البضائع السرية مهما كانت درجة خطورتها. فكم هارب من السلطة العراقية فرَّ من مركز القائم، وكم سوري دخل العراق عبر القائم، مبحراً مع الفرات أو سائراً مع شاطئيه. لكن لماذا اختار الإرهابيون القائم بوابةً ومكاناً، ونجحوا فيه دون سواها من الأمكنة التي لها المواصفات نفسها؟

يعزى السبب، بحدود معرفتنا، إلى وجود قاعدة قوية لفلول النظام السابق، صُب فيها المال والسلاح، استغلت هامشية المكان بالنسبة إلى الأمكنة الحدودية الأخرى. لم تستخدم القائم كنقط عبور، مثل استخدام الرطبة والمناطق الأخرى في كل عهود الدولة العراقية الحديثة. ولولا توافد الإرهابيين بهذه الوفرة، من وإلى القائم، بعد الفلوجة، وتتبع الأثر لما اكتشف المكان كمنفذ من أهم منافذ الإرهاب إلى العراق. وثانياً هو تواجد الدعم بالمال والرجال والتدريب من قبل المتواجدين من بقايا البعث العراقي في الأراضي السورية.

لا اعتقد أن ثغر القائم الأقصى سيبقى عصياً إلى هذا الحد بوجود اتفاق بين ثلاث دول، مثلما هو مُعلن، على حمايته بالذات. وأعني: العراق، وسوريا وأميركا، والأخيرة بقواتها الفاعلة في المعركة. لقد أعلنت سوريا عن قيام سدود تُرابية، وحراسة مكثفة تعدادها سبعة آلاف عسكري. وأجهزة تراقب حدوداً طولها تسعمائة كيلو متر، تقابلها قوة عراقية وأمريكية. لكن دعونا نجعل شيئاً لنظرية المؤامرة، قد يفرض الاعتقاد بها إهمال حماية بوابات حدود العراق كافة، وهي هل انتهت أمريكا من صيد الإرهابيين حتى تغلق بوابة تورابورا العراق غلقاً محكماً؟ وهل اقتنع مؤيدو (المقاومة) أن استمرار تسرب الإرهاب هو استمرار الاحتلال. وهيئة علماء المسلمين معنية في بوابة القائم فهي داخل دائر فتاويها.