شعر أقوى من السجن!

TT

ان من الصخر تتفجر الأنهار، ومن التربة النائمة الخامدة تتفجر البراكين نتيجة لاحتباس الهواء والنار في جوف الأرض، ولسبب ما تنطلق الحمم البركانية بعد انتظار مئات السنين تحت الأرض، وكذلك كثير من المواهب النائمة فجأة تتعملق وتنطلق ناراً وشراراً ودخاناً أو زهوراً ووروداً وثماراً، كأنها كانت في مكان تدخر فيه كل هذه الابداعات حتى تجيء اللحظة المناسبة، ولا أحد يعرف متى.

وكثير من الأدباء والفنانين سكتوا طويلاً وتفجرت عبقرياتهم الابداعية في سن متأخرة، أو تجيء يد خفية وتدق أبوابهم بعنف، أو تقض مضاجعهم لينهضوا صارخين في الناس ومن أجل الناس أيضاً، كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟ لا نعرف، والذين يقولون إن الحياة تبدأ بعد الستين، بعد السبعين، بعد الثمانين، إنما يقصدون هذه المعاني.

أجمل ما قاله استاذنا سقراط كان في السجن في انتظاره للموت، لم ينتظر حتى يقتلونه وإنما سبقهم إلى ذلك، فأغاظهم أنهم أرادوا له الموت، فاختاره لنفسه قبل أن ينفذوه، بيده لا بيد أحد آخر.

وما قاله أوسكار وايلد في السجن، عندما أبدع كتابه (من الأعماق). ويوسف عليه السلام ظهرت براعته في تفسير الأحلام في السجن أيضاً، وكثير من الفنانين والأدباء انفردوا بأنفسهم في السجون والمعتقلات وفي المنفى أيضاً، في بيئة من العذاب والقهر، كانت مذاهبهم نوعاً من الاحتجاج على رغبة الآخرين في القضاء عليهم، هم أرادوا لهم الموت، وهم أرادوا الخلود، فكانت جدران السجن أرحب من الكون، وظلام السجن نورا يضيء وناراً تحرق وانطلاقاً بلا جدران، وكان ابداعهم رفضا للظلم، واعلاناً بأن العبقرية قد خلقها الله لا لتموت ولكن لتكون دعوة للحياة والإحياء والإبقاء والبقاء.

وكان آخرهم الشاعر المصري عفيفي مطر فقد تدفق في السجن بركاناً شعرياً، سألت استاذنا عباس العقاد عن تجربته في السجن فقال إنه تواردت على ذهنه كثير من المعاني، وكان يمكنه أن يطلب ورقاً وقلماً ويكتب، ولكن لسبب آخر رفض، رفض لأنه لا يريد أن يقول إنه سعيد بالسجن، وإنهم يستحقون الشكر على ذلك، وانما أراد أن يعمق لديهم - لدى الملك فؤاد ورجاله وحاشيته والأدباء والشعراء الذين وقفوا يتفرجوا عليه - الشعور بالذنب والهوان!

وعندما خرج صديقي محمد أحمد النعمان الزعيم اليمني من سجن الرئيس عبد الناصر كان قد نظم قصائد جميلة قوية - مع أنه لم يكن شاعراً، وإنما كان يتذوق الشعر وكان راوية لشاعر سياسي يمني هو الزبيري، وقد حفظت القصيدة التي كتبها هجوماً وهجاء لاذعاً للرئيس عبد الناصر، وقد نسيتها.

قلت للأستاذ النعمان: لو أعرف أنك صرت شاعراً، لتمنيت على الرئيس أن يطيل حبسك حتى تخرج علينا بديوان كبير!

.. ولكنهما لم يفعلا!