إيران: عندما تنقلب الشرعية على الديمقراطية

TT

عادة ما ننسى في غمرة حماسنا المشروع والمطلوب للديمقراطية، أنها وإن كانت الطريق الأوحد لتجسيد الحريات السياسية، إلا أنها لا تحمي من منزلقين، كثيرا ما أدت إليهما وهما: إفراز الخيار المناوئ عقديا وأيديولوجيا لمبدأ الديمقراطية ذاتها عن طريق آلية الانتخاب الحر، وتحكم مراكز القوة والمال والسلطة التي تتخذ في الغالب أشكالا مؤسسية شرعية في هامش الاختيار المتاح شعبيا، أي استيلاءها على إرادة الناخب وقدرتها على مصادرتها وتوظيفها من خلال عملية تعبئة ومناورة معقدة وناجعة.

ولا شك أن الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في إيران التي نظمت يوم الجمعـة الماضي (24 يونيو) قد أكدت هذه الحقيقة التي كثيرا ما يتم تناسيها.

صحيح أن الاقتراع نظم في ظروف مرضية إجرائيا، فلم يحدث التزوير الكثيف، ولم تتلاعب الإدارة بالنتائج، وأقر المرشح المهزوم رفسنجاني بهزيمته، واحتفى الرئيس المنتخب محمود احمدي نجاد بانتصاره بمسؤولية ووقار، إلى حد أن إحدى الصحف الغربية ذهبت إلى القول إن الانتخابات الإيرانية سارت هذه السنة على النسق الأمريكي حتى ولو أفضت إلى نجاح التيار الأيديولوجي والسياسي الأكثر عداء للولايات المتحدة.

وما ردده الإصلاحيون المحبطون من اتهامات لخصومهم بتوظيف المال والدعاية المغرضة لكسب الناس، لا يخرج عن الاتهامات المألوفة في أي منافسة ديمقراطية في أي بلد من العالم. فلا أحد في إيران يشكك في شرعية انتخابات الوجه الجديد المغمور القادم لمركز السلطة، من خلايا التنظيمات الثورية الراديكالية، وصفوف حرس الثورة والبسيج.

ومع ذلك فإن الشارع السياسي الإيراني بتشكيلاته الليبرالية والإصلاحية وتياره المحافظ المعتدل (الذي يمثله رفسنجاني)، وكذا المجتمع المدني بمكوناته الثقافية وتنظيماته الأهلية النسوية والشبابية لمست في الانتخاب الشرعي لنجاد نمطا من الانقلاب الراديكالي الخطير على خيار الإصلاح والانفتاح الذي انطلق بزخم شعبي قوي منذ وصول الرئيس محمد خاتمي المنتهية ولايته للسلطة عام 1997 .

فكيف يكون انتخاب أحمدي نجاد شرعيا وانقلابيا في آن واحد؟ وهل اختارت الديمقراطية الإيرانية الانتحار المدوي بعد أن عجزت عن تحقيق أهدافها الإصلاحية؟

لا شك أن هذه المفارقة هي السؤال الأكبر المطروح في المشهد السياسي الإيراني الجديد المفتوح على احتمالات شتى، من بينها احتمال الصدام والفتنة. والأطروحة التي ندافع عنها في قراءتنا للانتخابات الإيرانية الأخيرة هي اعتبار الاقتراع وإن تم في ظروف إجرائية سليمة، حصيلة انقلاب شرعي غير ديمقراطي على الخيار الإصلاحي الذي هو الخيار الشعبي الكاسح في إيران.

صحيح أن الكثير من التحليلات ذهبت إلى أن فوز نجاد هو في حقيقته عقاب موجه للتيار الإصلاحي الضعيف الأداء، الذي لم يتمكن من تحقيق مكاسب فعلية نوعية لناخبيه خلال ثمان سنوات من الحكم، بيد أننا ننظر إلى هذه الحقيقة الساطعة في سياق الاستراتيجية الانقلابية التي قوضت كل آليات التغيير المتاحة بأيدي الحكومة الإصلاحية، كما سنبين لاحقا.

ولا بد من أن نوضح هنا أننا لا نعني بعبارة انقلاب المؤامرة الخفية أو دسائس القصور، بل نستخدمها في تحليلنا لحقل السلطة في إيران، الذي هو ككل حقل سلطة مدار صدام بين قوى واستراتيجيات وشبكات تستخدم أدوات الشرعية نفسها في صراعها على الأفكار والمصالح ومراكز القرار.

فانقلاب المحافظين يعني من هذا المنظور نجاح هذا التيار المهيمن على مراكز السلطة الأساسية في افتكاك آخر المعاقل الخارجة عن قبضته، أي مقعد الرئاسة الذي ليس بالدائرة المحورية والحاسمة في تركيبة الحكم الإيراني.

فالصراع الأيديولوجي في إيران الذي يحتدم في نطاق الأطر الشرعية الدستورية القائمة (دستور الجمهورية الإسلامية الصادر في نوفمبر 1979) يتجاوز في الحقيقة هذه الأطر ويعكس حوارا عميقا حول طبيعة النموذج المجتمعي الإيراني بين تيارات شتى، تنقسم إجمالا حول أربعة اتجاهات أساسية.

* اتجاه ولاية الفقيه: الذي يضم المجموعات والقوى المتمسكة بالخيار الثوري الأرثوذكسي كما صاغه الإمام الخميني، ويقوم على فكرة تقاسم المشروعية بين الإمام من حيث هو حاضن الشرعية الدينية والشعب من حيث هو صاحب الاختيار ضمن حدود هذه الشرعية.

* الاتجاه المحافظ: الرافض لمبدأ ولاية الفقيه من داخل الحوزة الدينية، ويضم رموزا علمية كبرى تعارض هذا المفهوم غير المتجذر في التقاليد الفكرية الشيعية. والمعروف أن المرجع الشيعي الأكبر أبو القاسم الخوئي اعترض بشدة على منح دلالة سياسية لولاية الفقيه التي لا تخرج بالنسبة له عن الأمور الدينية التعبدية (وهو الرأي الذي يكرره حاليا الإمام السيستاني في العراق الذي له أتباع كثيرون في حوزة قم).

* الاتجاه الإصلاحي الداعي إلى مراجعة النموذج الإيراني من الداخل، بمعالجة الاختلالات التي يعاني منها بخصوص الحريات الفردية والعامة، معتبرا أن الوقت حان لمرور البلاد من الشرعية الثورية إلى الشرعية السياسية المدنية التي تقتضي المصالحة الداخلية وتطبيع دور إيران في الخارطة الدولية.

* الاتجاه الليبرالي اللائيكي الرافض لمبدأ الدولة الدينية، والمطالب بإصلاحات سياسية واجتماعية جذرية تلغي النموذج الثوري برمته.

ومن الواضح أن الاتجاهين الأولين يلتقيان في المرجعية الدينية، ويختلفان في طبيعة المشروع السياسي، في حين يتفق الاتجاهان الأخيران في المشروع السياسي مع تباين في المرجعية الفكرية وإن التقيا مرحليا في تأمين الإجماع العارم حول شخصية الرئيس خاتمي.

ولا بد من التنبيه أن هذا الصدام الأيديولوجي ـ السياسي يترجم فكريا في حركية ثقافية غنية ذات مضمون فلسفي عال، أصبح بمقدورنا متابعتها بالعربية من خلال مجلة «قضايا إسلامية معاصرة» التي يصدرها المفكر العراقي المرموق عبد الجبار الرفاعي، ومن خلال الكتب المتفرغة عن هذه المجلة. فما جرى في إيران مؤخرا هو نجاح التيار المحافظ في توظيف مواقعه الدستورية والمؤسسية لضرب كتلة إصلاحية عريضة مشتتة الرؤى الفكرية والمصالح المجتمعية، عجزت عن تحقيق برامجها التغييرية لاصطدامها بجدار السلطة الفعلية التي تتجمع في يد المرشد (خامئني) الذي نزل بقوة ـ وإن بخفاء ـ إلى حلبة الصراع لإقصاء خصومه.

والمعروف أن الدستور الإيراني يعطي ولي الفقيه صلاحيات واسعة تجعل منه الحاكم المطلق للدولة تشمل من إعلان الحرب والسلم إلى الإشراف على الإعلام المسموع والمرئي، فضلا من حق الفيتو عمليا على كل قرارات الحكومة.

وبالإضافة إلى هذه الصلاحيات الدستورية الواسعة التي يتمتع بها الولي الفقيه من حيث هو مرشد الثورة ومرجعية الدولة الروحية، فإن الشبكات المؤسسية الواسعة التي أبدعتها الثورة سواء لأغراض الدعاية التعبوية أو العسكرية الأمنية تدين له بالولاء المطلق. ومن أبرز هذه الشبكات حرس الثورة والبسيج (قرابة أحد عشر مليونا) والجمعيات الخيرية ذات الإمكانات المالية الهائلة، وقد تواترت التقارير القادمة من إيران على أنها نزلت بقوة في الشارع إلى جانب الرئيس الجديد نجاد.

فاستراتيجية المحافظين المدعومة من المرشد خامئني تمثلت إذن في تطويق المشروع الإصلاحي بإفراغ المؤسسات المنتخبة التي كان يسيطر عليها (البرلمان والرئاسة) من أي صلاحيات فعلية بطريقة شرعية دستورية لا غبار عليها، مما أدى إلى إنهاكه وإفقاده الصدقية الشعبية، ومن ثم إفساح المجال لاكتساح التيار المحافظ الأكثر تشددا لآخر قلاع السلطة.

بيد أن الخطر القائم يتمثل في تحويل الصراع السياسي الحاد المحتدم راهنا في إيران، من داخل أطر المشروعية، إلى صراع عنيف وصريح حول طبيعة الشرعية وثوابت النموذج القائم، ولعله المنعرج الذي بدأ بالفعل منذ إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة.