إيران: بازار الأفواه والأرانب ..!

TT

كثيرا ما تنشق أراضي الانتخابات عن مقبلين من الأمام، والمثال الأسطع هنا فوز حاكم مغمور من أركانسو هو وليام بيل كلينتون (أول رئيس في تاريخ أميركا من مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية، في 1992 بشعار إنه الاقتصاد الغبي، ليهزم جورج بوش الأب، أكثر رئيس في تاريخ أميركا فهما للعالم وثراء في السيرة الذاتية، بمزايا المناصب التي تقلدها، مندوب أميركا بالأمم المتحدة، وسفيرها لدى الصين، ومستشار الأمن القومي، ورئيس المخابرات، وثمانية أعوام كاملة نائبا للرئيس الراحل ريغان بكل عنفوان حقبتيه في الذاكرة الأميركية وأبرزها سقوط إمبراطورية الشر الاتحاد السوفياتي ومن بعده حائط برلين والمنظومة الشيوعية بأوروبا الشرقية)، وليعود كلينتون ويهزم ثانية بوب دول الذي حارب في الحرب العالمية الثانية، وكلينتون لم يكن قد تقلب بعد جنينا في رحم أمه، يومها قال صحافي أميركي بنيوزويك (طالت المدة ولم أعد أتذكر اسمه)، ان الناخب أعطى صوته لكلينتون ولم يعطه لبوب دول، لأن الأول كأنما كان يقول للناخب: تعال ننظر الى هذه المرآة لنرى أي صورة نريد أن نرى أنفسنا عليها، فيما كان لسان حال الثاني يقول: تعالوا انظروا الى هذه المرآة لتروا من أنا وكيف كنا.

صحيح أن هامش المقاربات يضيق بين إيران وأميركا بعوامل معلومة، ولكن فوز أحمدي نجاد يفتح كوة في جدار ذلك الهامش الضيق لجهة حقائق سياسية كثيرة تتعدى في عمقها قشرة الحدث، أي وبالتحديد هذه القناعة الغريبة والرضا بالتسمر في سجون الحاضر، دعك عن الماضي، وحرمان العقل والنظر من سياحية مجانية مذهلة في المستقبل، حتى بمداه الزمني المتوسط، 25 عاما مقبلة مثلا، دعك أيضا عن سيولته الممتدة مع هذه الأرض التي تدور وتدور بلا كلل مثل درويش في ساحات عشقه.

فكلينتون 45 عاما يوم الانتخابات هزم شيخا يضرب أبواب السبعين، مثلما هزم أحمدي 49 عاما شيخا هو رفسنجاني وطأ عتبة السبعين عاما سلفا، وبسيرة ذاتية لا قبل لرئيس إيراني بها، وكلينتون في إعلان براءة الذمة قبل الرئاسة كان مليونيرا، ولكن بفارق يقترب من النصف عن بوش الأب، وأحمدي ليس بين تلك الشريحة ولا يزال يسدد أقساط شقة متواضعة في طهران فيما رفسنجاني مليونير.

كلينتون دخل الانتخابات بشعار الاقتصاد، وأحمدي دغدغ مشاعر الفقراء بشعار (تعالوا نقطع أيادي المفسدين ماليا)، وقد يقول قائل ان المرشد في إيران هو الذي يأتي بالرئيس، ولكن الصحيح أنه يمكن أن يؤثر في عملية بالغة التعقيد، ولكن الى حين، لأن بقاء نظام المرشد، وبالنظر اليه بعيون الاقتصاد والاجتماع والعولمة والإنترنت وعدسات المستقبل، سيجد نفسه يوما مثل بوب دول.

وبالمختصر المفيد، الذي حدث في إيران أن 47 مليون مواطن من دون سن الثلاثين من أصل 68 مليونا، تصل نسبة البطالة بينهم الى 11 في المائة فيما يعيش 40 في المائة منهم مع ذويهم تحت خط الفقر، اتجهوا لرئيس من مواليد ما بعد الحرب الثانية، ليس حبا فيه، وإنما إثباتا لحق مشروع هو أن ينتموا للمستقبل، ولحق آخر لا يريدون فيه لأفواههم أن تأكل فراغا والقطط السمان متخمة وجيوبها تمتلئ بالأرانب (الأرنب في ثقافة مصر الشعبية مليون جنيه والباكو ألف).

صدقوني .. أحمدي لم يفز، لأن الفائز في المعركة الآن هو الناخب الإيراني، وإن كان بنصر يطلق عليه أهل السياسة (النصر المهزوم) وقد أطلق على فوز التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة بوش الأب، باعتبار أن المعتدي قد كوفئ بالبقاء.

ذلك حال الناخب الإيراني، فاز في معركة تمهيدا لفوز مقبل في حرب صامتة يديرها نبض العقول والبطون، بعد أن بدأ الناخب رحلة النظر الى المرآة التي لا يريد أن يرى فيها إلا نفسه، أو من يتحدث اليه عما يجب أن تكون عليه الصورة بأضعف الإيمان.

[email protected]