ذروة الديمقراطية.. احترام الأقليات

TT

اللعبة الديمقراطية الكاملة في لبنان يفسدها تشبث فدرالية الطوائف بموقعها المتقدم ـ حتى الآن ـ على موقع الدولة.

التجربة الديمقراطية في العراق يحبطها الخلاف المستشري ـ حتى الآن ـ على حصص الطوائف في الدولة.

من شرقه الى غربه يلج الشرق الاوسط القرن الحادي والعشرين من أضيق ابوابه: باب الطوائف والمذاهب، وكأن خاصيته كمهد للاديان السماوية تحولت الى عقدته السياسية.

قد تكون مشكلة شعوب الشرق الاوسط أن «الامر الواقع» العثماني ـ الذي دام قرابة الخمسمائة سنة ـ لم يندثر مع «استقلال» هذه الشعوب عن حكم الباب العالي. وقد تكون مشكلتها الاخرى أن حسها القبلي ـ المذهبي لم يتطور بعد الى حس اجتماعي يفرز ولاء ضروريا للكيانات الجغرافية الدخيلة عليها بعد الحرب العالمية الاولى: كيان الدولة الجامعة... والتعددية في نفس الوقت.

مع ذلك تتحمل الانظمة المحسوبة على «الديمقراطية» في المنطقة مسؤولية أكبر من مسؤولية شعوبها في تقصيرها الفاضح عن تطوير حس وطني جماعي لدى شعوبها، حس تنصهر فيه الانتماءات المذهبية والعرقية، وفي تجاهلها للمعطى الرئيسي لأي ديمقراطية ناجحة في مجتمعات الشرق الاوسط، أي التسليم بأن الديمقراطية تبدأ باحترام الاقليات، مذهبية كانت ام عرقية.

كيف يتوقع منظرو الديمقراطية الايديولوجية إقناع شعوب الشرق الاوسط باحترام حريات الافراد فيما انظمتها لا تحترم حريات الاقليات فيها؟

سبق لوزير الخارجية الاميركي الاسبق، هنري كيسنجر، ان اعتبر ان اعلى مراتب الديمقراطية في العالم هي الفدرالية.

أما في الشرق الاوسط، فقد تكون أعلى مراتب الديمقراطية فيه الديمقراطية التوافقية، أي الديمقراطية التي تبدأ بالاعتراف بالاقليات وبحقوقها المتساوية مع حقوق الاكثرية في اطار الوطن الواحد.

من هذا المنظور، ورغم شوائبها، تبدو الديمقراطية اللبنانية نظاما متقدما على غيره من «ديمقراطيات» المنطقة لولا نزعة القيمين عليه لتوظيفه سلعة سياسية في أي مناسبة استحقاق انتخابي أو اداري.

ديمقراطية لبنان التوافقية ليست بدعة ايديولوجية بل مجرد صفقة مقايضة تقبلتها الذهنية اللبنانية بمنطقها المتطلع دوما الى حل لمشاكل الوطن لا يخرج عن معادلة «لا غالب ولا مغلوب»، الامر الذي أقنع الاكثرية الاسلامية بالتنازل ـ في مؤتمر الطائف الشهير ـ عن حقها العددي في تولي منصب الرئاسة الاولى للاقلية المسيحية (ممثلة بالطائفة المارونية) ليس فقط حفاظا على تقليد كان قائما منذ ستة عقود، بل حفاظا على وحدة الوطن وترابه.

هذا لا يعني بأي شكل من الاشكال، ان «النسخة» اللبنانية من الديمقراطية نسخة مثالية يصح الترويج لها. ولكنها تبقى في ظروف لبنان الراهنة معادلة واقعية، وان مؤقتا، لصيغة تعايش تربط التعددية المذهبية والاثنية بكيان سياسي واحد وتشكل ضمانة وحدة هذا الكيان.

على ضوء هذه الخلفية، وبعد ان كثر الحديث عن أوجه الشبه بين الحالتين اللبنانية والعراقية، يجوز التساؤل: إذا كانت وحدة التراب العراقي هي الثابت المشترك بين جميع فئاته المذهبية والاثنية، ألا تستأهل هذه الوحدة تضحية الاكثرية للاقلية بموقع الرئاسة الاولى ليس فقط حفاظا على كيان العراق بل سفكا للدماء المهدورة يوميا على ترابه؟

ثم إذا كانت هذه التضحية تحتاج ـ كما كان الحال في لبنان ـ إلى ضمانات مقابلة للأكثرية، فهل من الصعب على المشترع العراقي أن يرفدها بضمانات دستورية تحقق توازنا أفضل بين السلطات الثلاث الرئيسية وتعزز مبدأ فصل السلطات ـ وهو المبدأ الاساس لاي نظام ديمقراطي.

... مع ذلك يبقى من المؤسف ان تصبح «اللبننة» الطرح المقترح للحفاظ على وحدة دولة كانت مهدا لكل دعوة وحدوية عربية في تاريخها الحديث.