محطات في انتظار القطار الأميركي...

TT

محطات.. تنتظر أن يمر بها ويتوقف القطار، الذي تقوده الولايات المتحدة، باعتبارها القوة الأعظم والأقدر على أن تساعد على إصلاح تلك المحطات، إذا أرادت وإذا تحلت بالحكمة والمعرفة، والبعد عن النرجسية التي لا تقود إلا إلى إيذاء النفس والغير، وإذا استمعت إلى نصائح حلفائها وأصدقائها بل وشعبها ذاته.

* المحطة الأولى: إسرائيل وفلسطين:

لم يعد هناك شك، إذا كان شك قد وجد يوماً، حول حقيقة نوايا شارون من مشروعه للانسحاب من قطاع غزة. ومن قبل ادعى شارون أنه الزعيم الإسرائيلي الأقوى، القادر على أن يقنع شعبه بتسوية سلمية مع الشعب الفلسطيني، تقوم على ما سماه تنازلات. وأضفنا نحن إلى ذلك توصيفاً هو «إذا أراد»، لأنه كانت هناك شكوك مبررة حول حقيقة ما يريد. فلقد قبل «خريطة الطريق» مع تحفظات أربعة عشر، استهدفت تجريدها من روحها وفحواها، ثم سار يطنطن بأنه قبلها، من دون الإشارة إلى تلك التحفظات التي ظلت هي العقبة الأساسية أمام التنفيذ. وقاد حملة تشويه حول حقيقة ما جرى في لقاء كامب دافيد ومفاوضات طابا التي تلته، في إطار جهود كلينتون من أجل التسوية، وكان جزء من الحملة عزل ياسر عرفات واغتياله معنوياً وسياسياً، قبل التخلص منه جسدياً، وفقاً لقرار رسمي اتخذته إسرائيل وأذاعه المتحدثون الرسميون وغير الرسميين باسمها، ومن دون أن يجدوا من الولايات المتحدة رادعاً اكتفاء برداء خافت بألا يمس الزعيم الفلسطيني بسوء.

وعندما انتخب أبو مازن رئيساً في انتخاب حر، مثلما كان انتخاب عرفات من قبل، تظاهر شارون بالترحيب بذلك، ملوحاً بأنه وقد وجد شريكاً حقيقياً مستعدا لبناء السلام. فماذا فعل؟ استمر في سياسة بناء المستعمرات وتدمير المنازل والقتل والاعتقال ورفض الإفراج عن المساجين السياسيين كلهم، ورفض إخلاء المدن. كل ذلك مقترن بالتحريض على وقوع حرب أهلية بين الفلسطينيين، عن طريق مطالبة السلطة الفلسطينية بنزع سلاح المنظمات عنوة، مع أن تلك المنظمات التزمت بالهدنة، وعن طريق استفزاز تلك المنظمات حتى تخرق الهدنة فتعطي لإسرائيل مبرراً لضربها والتحريض عليها، وعن طريق إهانة الرئيس أبو مازن بإفشال لقائه بشارون في القدس في محاولة لاغتياله سياسياً، وإضعافه في مواجهة شعبه الذي وثق به.

وفي مواجهة ذلك كله، لم نر، بخلاف جهود مصر الحثيثة التي لم يستجب لها شارون حتى الآن، جهوداً من جانب أميركا أو بقية الفريق الرباعي، الذي يجتمع وينفض من دون اتخاذ موقف حازم وجاد دفاعاً عن «خريطة الطريق»، الشهيرة التي كادت معالمها تطير من الذاكرة وتتبخر على الأرض.

وأتصور أن الموقف يقتضي، أن يكون هناك ضغط حقيقي على إسرائيل، ووضع جدول زمني جديد لتنفيذ التزامات الطرفين مع التهديد باتخاذ إجراءات حازمة لمساعدة الطرفين على الالتزام، ولمعاقبة من يحاول تغطية نواياه السيئة بغلاف من ادعاء النوايا الحسنة.

ولعل هذا ليس إفراطاً في التفاؤل، بل هو دعوة إلى الواقعية، لأن استمرار الوضع على ما هو عليه ممكن، إذ انه سينزلق إلى ما يصيب مصالح المتقاعسين عن تحمل مسؤوليات قبلوها على أنفسهم.

* المحطة الثانية: إيران:

مهما كان الرأي في تحليل نتيجة انتخابات رئاسة الجمهورية التي أتت إلى القمة بالسيد أحمدي نجاد، ومهما كانت صحة التوصيفات له بأنه متشدد انتصر على رفسنجاني الإصلاحي المعتدل، فإنه يجب الإقرار بأن ما حدث لم يكن فقط نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية، كما ذكر بعض المعلقين عن حق، وإنما كان نتيجة الضغوط الأميركية والغربية التي أتت بنتائج عكسية.

فلقد كان لذلك الضغط، الذي وصل حتى إلى التشكيك في عملية الانتخابات ذاتها بحجة أن ألف (أكرر ألف) راغب في الترشيح لم تتح لهم فرصة الترشيح، إضافة إلى الإصرار على تعقيد المفاوضات بين طهران وكل من باريس ولندن وبرلين حول الموضوع النووي، وما تردد من أن شرط سحب اعتراض واشنطن على إعادة انتخاب الدكتور البرادعي لإدارة وكالة الطاقة النووية، هو تشدده مع طهران، كل ذلك أدى إلى نتيجة عكسية بفشل رفسنجاني. وهكذا فإن الشعب، عندما وجد أن «الاعتدال» لا يخفف من الضغوط الخارجية، انحاز بأغلبية كبيرة إلى جانب من اشتهر بأنه متشدد. وهي نتيجة طبيعية طالما حذرنا وحذر غيرنا أميركا منها، موضحين أن الضغوط ـ مثلما أثبتته نظرية ارشميدس في مجال آخر منذ قرون ـ تؤدي إلى ضغوط معاكسة بنفس القوة، بل هي تكون في السياسة عادة بقوة أكبر.

ولعل ما حدث يقنع أميركا والغرب عامة بأن السياسة التي اتبعت حتى الآن، لم تؤد إلى النتائج التي يرجونها، وأنه من الضروري اتباع أساليب للتفاهم والتعاون.

* المحطة الثالثة: العراق:

يتزايد عدد الضحايا العراقيين والأميركيين بشكل ملحوظ. ومن المهم أن نعيد التأكيد بأنه من الظلم والخطأ اعتبار كل من يقومون بعمليات العنف بأنهم إرهابيون من أنصار نظام صدام البائد، فهم لا شك موجودون على الساحة، ولكن ليس لهم التأثير الذي يحاول البعض تصويره حتى يحجبوا الحقيقة التي طالما أكدها الكثيرون، وهي أن هناك مقاومة وطنية للاحتلال، وأنه ليس صحيحاً ـ كما تثبت البيانات، التي تنشرها قوى الاحتلال ذاتها ـ أن أغلب المقاومة من مواطني دول عربية مجاورة أو من العابرين لحدودها. وقد اعترف الأميركيون في ذكرى ما سموه عودة السيادة للعراقيين، بخطورة الوضع الأمني، حين قال وزير الدفاع رامسفيلد إن القوات الأميركية سوف تبقى عدة سنوات في العراق، ولكنها لن تهزم من سماهم بالمتمردين، لأن ذلك مسؤولية العراقيين أنفسهم وقد يستغرق من 5 إلى 12 سنة. ومعنى هذا الكلام أن أميركا تعترف بأنها لن تستطيع القضاء على المقاومة، في نفس الوقت الذي تعترف فيه بأن تدريب القوات العراقية، لا يسير على الوتيرة المطلوبة والكفاءة المفترضة، وأنها على أية حال، تنوي مغادرة العراق بعد سنوات قليلة هي أقصى ما تستطيعه وتتحمله أوضاع قواتها المسلحة، وتترك العراقيين وحدهم يواجهون الفوضى غير الخلاقة التي أوجدها الاحتلال الأجنبي.

وبهذه المناسبة فإني أود مرة أخرى، أن أشير إلى بعض نتائج استطلاعات رأي أخيرة قامت بها هيئات ومؤسسات أميركية عرفت بالجدية وعدم التزوير أو التزويق. وتقول تلك النتائج التي نوردها بمناسبة ذكرى «عودة السيادة» إلى العراقيين، إن 60% من الشعب الأميركي يعتبرون أن الاحتلال كان خطأ منذ البداية، ويعتقد 75% أن الحكومة الأميركية خدعتهم بشأن مبررات الحرب. وأن 49% مقتنعون بأن بوش هو المسؤول عن الحرب في العراق، بينما يحمّل 44% صدام المسؤولية. ولا يعني هذا بالقطع تأييداً لصدام، فهو ملفوظ من شعبه ومن العالم، ولكنه يعني أن الحرب لم تكن ضرورية، وهو ما أكده الكثيرون من أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها وخصومها أيضاً.

وهناك إحصاءات أيضاً عن الأحوال في العراق، توضح وفقاً لبيانات وزارة التخطيط العراقية: ان البطالة بين الشباب فوق سن 15 عاماً، بلغت 31%، وان نصف الأطفال بين سن 6 أشهر و5 سنوات يعانون من سوء التغذية...

هذا عن آثار الاحتلال من النواحي السياسية والأمنية والعسكرية والمعيشية، وهي من الأسباب التي تجعل قلق الشعب الأميركي ذاته يتزايد وتتزايد معه التيارات المعارضة للحرب، ولاستمرار الاحتلال ولسياسات الرئيس الأميركي عامة. ويضاف إلى ذلك ما يبديه مسؤولون أميركيون من استخفاف بما ظهر من خرق لحقوق الإنسان في السجون والمعتقلات الأميركية، ويكفي تعليق نائب الرئيس تشيني على معتقل جوانتانامو، الذي وصفه بأنه «جنة استوائية» يحصل فيها المعتقلون على ما يريدون، وهي «جنة» ثبت أن «المتمتعين بها» يلقون معاملة مخالفة لكل حقوق الإنسان، التي تعطي واشنطن دروساً للعالم فيها، ويتعرضون لرعاية عدد من الأطباء ـ يخالفون قسم أبوقراط الشهير ـ إذ يساعدون المحققين على معرفة أفضل الطرق للتعذيب، ومضاعفة الضغوط النفسية على «النزلاء» الذي ترفض واشنطن تطبيق اتفاقيات جنيف عليهم، وتوسع «منتجع» جوانتانامو لاستيعاب أعداد أكبر منهم.

* وزير الخارجية المصري السابق