دولة جنوب العراق..!

TT

لم يعد بالأمر المخفي على أحد في العراق، لا من الحكومة ـ الحالية أو السابقة ـ ولا من هيئة الرئاسة، ولا من الجمعية الوطنية (البرلمان)، ولا من الأحزاب والهيئات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ولا من الناس العاديين، أن الأحزاب والميليشيات الإسلامية الشيعية تعمل ليل نهار، من دون أي تردد أو خشية، على إقامة دولتها الخاصة في جنوب العراق ووسطه.. دولة مختلفة في قوانينها وتقاليدها عن الدولة العراقية، التي مركزها في العاصمة بغداد.

فدولة بغداد التي يحكمها الدستور المؤقت (قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية)، هي دولة علمانية، أو لنقل إنها غير دينية، تراعي الشرائع الدينية، وبخاصة الإسلام باعتباره دين الأغلبية من السكان. أما الدولة التي تعمل عليها الأحزاب والميليشيات الإسلامية الشيعية، ومعها أجهزة إيرانية، في الجنوب والوسط، فهي دولة دينية ـ مذهبية ـ طائفية تتجاوز كثيرا على أحكام الدستور المؤقت، وعلى الأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة في العراق منذ قرون، فضلا عن تعديها على الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، وبالذات حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

الأحزاب والميليشيات الشيعية، ومعها الأجهزة الإيرانية المادة أذرعها الأخطبوطية في كل اتجاه من البصرة الى الكوت وكربلاء والنجف.. وبغداد أيضا، تتصرف على أساس أن نتائج انتخابات 30 يناير (كانون الثاني) الماضي، منحتها تفويضا بحكم العراق، وأن الانتخابات التي ستلي إقرار الدستور الدائم (من المفترض أن تجري في نهاية العام الحالي)، ستسفر عن نتيجة مماثلة، تثبّت هذا التفويض المُختلق.

النافذون في دولة الجنوب والوسط تحت التكوين، لا يخفون ولاءهم الإيراني، وهو ولاء تمليه إما الاعتبارات الطائفية أو اعتبارات المصالح المادية (الأجهزة الإيرانية تبذل أموالا طائلة، والأحزاب والميليشيات، تقيم شراكات تجارية ومالية واسعة شرعية وغير شرعية مع الإيرانيين). ومنذ قيامه يلهم النظام الإيراني، معظم الأحزاب والجماعات السياسية الشيعية، وما يزال بعضها يوالي المرشد الإيراني علي خامنئي ـ وقبله الخميني ـ أكثر مما يوالي أي مرجع للتقليد سياسي أو ديني عراقي.

لكن أصحاب الدولة الطائفية تحت التكوين في الجنوب والوسط، لا يبدو أنهم راغبون في تفحص مثالهم الأعلى ونموذجهم الملهم، التجربة الإيرانية، فهم يبدؤون من حيث ابتدأت دولة الخميني وخامنئي، لا من حيث انتهت إليه.

كانت انتخابات الرئاسة الأخيرة في إيران فرصة لنتعرف على التطور غير القليل، الذي شهدته الحياة الاجتماعية منذ انتهت حقبة جمهورية الخميني وبدأت جمهورية رفسنجاني ـ خاتمي. فأنصار المرشح رفسنجاني رأيناهم ينشطون للدعاية له بطريقة عصرية.. الشبان يرقصون والشابات أنيقات وسافرات تقريبا، ولم يكن هناك عناصر من البسيج أو البسدران، يسعون لـ«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»! كما كان يجري في السنين الخوالي. وهذا لم يحدث جزافا ولا عشية الانتخابات الأخيرة وغداتها، فالنظام «الاسلامي» في إيران، أدرك أنه لن يستطيع أن يسوس الناس بالأساليب القديمة غير الإنسانية، وأن الثورة الشعبية، التي أطاحت امبراطورية الشاه، يمكن أن تلد ثورة أخرى، تخسف بهذا النظام.

أصحاب الدولة الطائفية تحت التكوين في جنوب العراق ووسطه، الذين يفرضون شريعتهم الخاصة على المجتمع، ومؤسسات الدولة والخدمة العامة، يريدون أن يسوقوا الشعب العراقي على درب الآلام نفسه، الذي سيق فيه الشعب الإيراني لأكثر من عشر سنوات. وهذا بطبيعة الحال دليل على الجهل المطبق لهؤلاء الأصحاب، حتى بتجربة قبلتهم الإيرانية.

[email protected]