الدور الأميركي في ترجيح كفة المحافظين.. في إيران!

TT

في إيران (تبدل نوعي): تمثل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية الايرانية: محمود أحمدي نجاد.. ومن مظاهر التبدل: أنه ليس حجة ولا آية، ولكنه مفعم بالايمان بولاية الفقيه، وبالخمينية وبإيران (الدولة النموذجية) القائمة على (أسس دينية)، بمعنى انه (رجل مدني تكنقراطي)، يتفوق على كثير من (رجال الدين) في الايمان بهذه المبادئ والتفاني في خدمتها.

الى اين يؤدي هذا التبدل النوعي؟.. الاحتمالات كثيرة، ولكن ليس من بينها: ادخال ايران في مقامرة او مغامرة.. أولا: لأن ايران تجاوزت طور (الثورة)، الى طور (الدولة).. وللدولة حساباتها والتزاماتها وقيودها التي في مقدمتها (سد الذرائع) امام (العدو المتربص)!!.. وثانيا: لأن الحريص على نظام ولاية الفقيه سيكون على رأس اولوياته: (المحافظة) على وجود هذا النظام: المادي والمعنوي.. والمنزعان متكاملان.

ومهما يكن من شأن، فان السؤال المركزي هو: ماذا وراء هذا (التبدل النوعي) الذي فاجأ التوقعات الاقليمية والدولية، بل فاجأ التوقعات الايرانية نفسها.. مثلا. لو كان علي هاشمي رافسنجاني يتوقع هذه النتيجة لما رشح نفسه قط، فهي نتيجة لم تقتصر على فوز منافسه فحسب، وانما هي نتيجة جعلت هذا المنافس يفوز فوزا مضاعفا، اي يفوز بأصوات مضروبة مرتين ـ تقريبا ـ في عدد الاصوات التي فاز بها رافسنجاني.

ماذا وراء هذا التبدل النوعي؟

الأسباب كثيرة.. والعوامل عديدة.

ولكنا نفرد هذا المقال لسبب واحد، وهو (سبب خارجي)، وهو (سبب مركب) غير بسيط.

بُعيْد غزو العراق، بدأ المسرح وكأنه قد تهيأ لغزو أميركي لايران.. وبغض النظر عما يدور في (الكواليس)، فان الرأي العام الايراني استنفر، وظل مستنفرا ـ بهذه الدرجة او تلك ـ حتى جرت الانتخابات الرئاسية الايرانية التي كان من اقوى دوافع المصوتين فيها: اختيار رئيس (صلب) قادر على مواجهة التهديد او العدوان.. فاذا كانت المادة الخاصة بولاية الفقيه في الدستور الايراني (المادة الخامسة) تنص على ان يكون ـ الولي الفقيه (شجاعا)، فان رئيس الجمهورية يكون له خط من صفة (الشجاعة) من حيث ان رئاسة الجمهورية (اداة تنفيذية) من ادوات ولاية الفقيه.

فالتهديد الأميركي كان ـ من ثم ـ (مقترعا كبيرا) في هذه الانتخابات الايرانية الملتهبة.

بيد ان اقوى ضلع في (السبب الخارجي المركب) هو: التبني الأميركي الغريب لما يسمى بـ (الاصلاحيين الايرانيين).

لقد اظهر هذا التبني الأميركي: هؤلاء الاصلاحيين وكأنهم (عملاء) لأميركا.. او (طابورها الخامس).. او (قواعد نفوذها في العمق الايراني).

ومن ثمار هذا التبني (الذي لا تلمح فيه اي عبقرية في الحساب الصحيح الدقيق):

أ ـ صعود اسهم من يسمون بـ (المحافظين) في مجلس الشورى.

ب ـ قفز رجل من (عمق النظام الفكري والسياسي) الى رئاسة الجمهورية: بأغلبية تستعيد اجواء الثورة: بادي ذي بدء.

وفي الحالتين صوّت الشعب الايراني ـ غير المعروف بمحبته لأميركا ـ صوت ضد الذين تتبناهم أميركا وتغازلهم، وتجاهر بدعمهم، او ترتاح لهم.

والعبرة العاجلة هي: الا يتباهى والا (يتكل) منحوا انفسهم صفة الاصلاح ـ في اي بلد ـ على أميركا. فهذا اقصر الطرق الى (الاحتراق السياسي).. و(الدفن الوطني).

ويبدو ان (عدم المراجعة) الجادة للسياسات: تؤدي الى تكرار الخطأ في الحساب.

فالتبني القريب لـ (الاصلاحيين): سبقه تبنٍ آخر منذ سنوات ست.. وعلى الرغم من خيبة التجربة السابقة فان الاسلوب او النهج ذاته تكرر.

في عام 1999: تفجرت في ايران احداث ضخام، امتزجت بالصخب والعنف. وكان قوامها: تيارات من الطلبة الايرانيين.

لماذا فعل الطلبة ذلك؟

قالوا: انهم يريدون الاصلاح، ويبتغون من رئيس الجمهورية: تسريع الحركة الاصلاحية.. ولم ينحصر برنامج الطلبة في (المطالب النقابية) المتعلقة بظروفهم التعليمية والمعيشية الجامعية، بل اتسع نطاق برنامجهم حتى لامس (الخطوط الحمراء) واقتحمها، وحتى شمل (ثوابت) النظام ـ بمقياس النظام نفسه ـ.. ومن هذه الخطوط والثوابت ـ مثلا ـ: ولاية الفقيه.. ومجلس المحافظة على الدستور.

فلقد نادى الطلبة بإلغاء هذين (الثابتين).

فماذا كانت النتيجة؟

النتيجة هي (اجهاض الاصلاح) الذي كان ماضيا في طريقه، بهذا الاسلوب او ذاك (في عهد خاتمي نفسه).

لقد كان رد الفعل صاعقا وكبيرا، اذ تجمعت (القوى المحافظة) على عجل ونزلت الى الشارع بوزنها الثقيل: ملخصة تقويمها للموقف وتكييفها له في هذه الجملة الأمنية السياسية الاستراتيجية: «ان النظام الايراني يتعرض لتهديد جوي في اصله وبنيته».. بل ان بعض مفاهيم هذا الملخص جر لسان رئيس الجمهورية نفسه.

وكان من المتوقع: ان يشتد بأس (القوى المحافظة) في ظل الاعتقاد بأن خطرا حقيقيا كاد يضرب النظام في الصميم.. وان يتعزز وجود هذه القوى في مختلف المواقع، بحسبان ان ذلك اجراءات ضرورية وأولويات متقدمة لتأمين النظام.. وقد كان. فهل خطط الطلبة الذين قاموا بالمظاهرات لهذه النتيجة التي جاءت ضد ما يريدون؟.. يُستبعد ان يكونوا قد خططوا لهذا المصير، الا اذا كانوا (جنودا سريين) لخدمة القوى المحافظة.. وقد يعتذر للطلبة بأنهم تنقصهم الخبرة والدهاء والقدرة على الحسابات السياسية.. ولكن ماذا عن القوى السياسية الاخرى؟

في انفعال عاصف، وتعجل بالغ: زكت (أميركا كلينتون) وأيدت حركة الطلبة الايرانيين.. فعلت ذلك وهي تعلم: ان ما تحبه هي، يكرهه الشعب الايراني، وبناء على هذا سيكره حركة الطلبة، او يرتاب فيها ـ على الاقل ـ ارتيابا يجعلها تبدو في عينيه وكأنها حركة (عميلة) لأميركا: بالتواطؤ المباشر، او بالاهداف المشتركة!! وثمة اعلام سياسي عربي، مكث غير بعيد، ثم سارع ـ تبعا لاعلام أميركي ـ الى التعبير عن فرحة ساذجة بما يجري في ايران، وهي فرحة ساذجة من حيث انها (فرحة بإجهاض الاصلاح) في ذلك البلد.

المهم ان هذا التعاطي الخارجي (الأميركي بالاصالة تم صداه من بعد).. هذا التعاطي الخارجي النزق مع ما جرى في ايران قد اسفر عن: التشكيك في التوجهات الاصلاحية.. وعن ايجاد ذرائع قوية لاجهاض الاصلاح او خفض معدلاته الى ادنى درجة.. وعن دعم هائل وخدمة مجانية للقوى المحافظة.

فهل خططت الولايات المتحدة للوصول الى هذه النتيجة؟

يستبعد ذلك لانه غير معقول (الا اذا جرى الاقتناع بجانب الغلو في نظرية المؤامرة).. وباستبعاد هذا الاحتمال: يتبدى سؤال: كيف وقع ما وقع؟.

وقع بـ (الحسابات الخاطئة).

وهي حسابات خاطئة لا تزال سارية المفعول!! بدليل ان تجربة 1999 تتكرر الآن: بالتأييد العلني للاصلاحيين، وبالنقد العلني للمحافظين. وقد ادى تكرار التجربة الى تكرار الفشل. فقد فاز المحافظون في الانتخابات الرئاسية الايرانية فوزا دفع القوى الاخرى الى خطوط متأخرة جدا.

ما الحقائق السياسية المستنبطة من ذلك كله؟.

أولا: حقيقة: ان من اقوى (عناصر السياسة): صحة الحسابات ودقتها.. فالسياسة ليست هوى ولا مزاجا ولا انفعالا ولا مثالية مفرطة ولا شعارات استفزازية ولا طموحا متجاهلا للواقع ولا معلومات خاطئة ولا تحليلا خاطئا لمعلومات صحيحة. وانما السياسة حساب علمي دقيق للامكانات والفورات السياسية وللظروف الوطنية والاقليمية والدولية ولطبائع الامم والشعوب.. والسياسة حسن التوقيت، ودراسة آثار القرار قبل اتخاذه.

ويعلمنا التاريخ السياسي البشري: ان هناك أهدافا كبيرة هزمها الحساب السياسي الخاطئ: في حرب وفي سلم.

ثانيا: حقيقة ان اول ركيزة في الحسابات الصحيحة هي (تحرير السياسة الخارجية) ـ مثلا ـ من الأهواء ومن التقارير التي يقدمها اشخاص او مجموعات او (لوبيات) ـ عربية وغير عربية ـ وهي ملونة ـ في المعلومة والمشورة والرأي ـ بالوانهم الايديولوجية والمصلحية والثأرية الانتقامية.. فمن الناس من يضحي بمصالح العالم في سبيل هواه.

ثالثا: حقيقة اننا لا نطالب أحدا بالصمت، ولا نحدد الوقت المناسب للتحرك، ولا نؤيد طرفا ضد طرف آخر. فهذا شأن ايراني داخلي: لا يجوز لنا (الفتيا السياسية) فيه. ولكنا بمقتضى تحليل الموقف بحياد: رأينا، كيف تأتي الحسابات الخاطئة بعكس المراد، وكأنه يتعين على النشاط السياسي ان يستدبر الهدف!!.. هذه هي النقطة الجوهرية في المقال.