أفريقيا...بين الاستعمار والإحسان

TT

بين ذهنية رديارد كيبلنغ (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) وذهنية بوب غيلدورف (لنجعل الفقر من مخلفات التاريخ) تحولت نظرة الغرب الى القارة الأفريقية، في قرن واحد، من الأقصى الى الأقصى: من الاستعمار الى الإحسان.

من تحصيل الحاصل أن يكون الغرب ملزما بمصير القارة الأفريقية، إن لم يكن من موقع مداراة تبعات انهيارها الاقتصادي على اقتصاده المعولم باطراد، فعلى الأقل من باب التعويض عن سنوات الاستعمار الطويلة ومآسيها.

قد يبرر بعض المؤرخين ظاهرة الاستعمار باعتبارها «المتنفس» المتاح للثورة الصناعية في أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر، وقد يردها بعض المنظرين الى «الرسالة التحضيرية» الملقاة على عاتق العالم الغربي...

ولكن، عشية افتتاح قمة «مجموعة الثماني» في غلين إيغلز (اسكوتلندا)، وبعيدا عن تبرئة العديد من الدول الأفريقية من استمرار «اقتصاد الحاجة» فيها، يصح التساؤل: إذا كانت مرحلة استعمار القارة الأفريقية تصب في خانة الحتميات التاريخية (كما يروج البعض)، فهل تشكل سياسة الإحسان التعويض المناسب عن تركة هذا الاستعمار ـ والفقر أحدها؟

أن تكون القارة الأفريقية هاجس الغرب، أمر يؤكده إدراج موضوع مساعدتها مالياً على رأس جدول أعمال قمة الثماني، وخصوصا مطالبة «لجنة أفريقيا» بتخصيص مساعدات سنوية إضافية لها تبلغ 25 مليار دولار (على مدى السنوات الخمس المقبلة)، ودعوة بريطانيا إلى مضاعفة حجم هذه المساعدات بحلول العام 2010 .

من منطلق أخلاقي لا بد من التنويه باهتمام الغرب ـ ولا سيما أوروبا ـ بالقضاء على الفقر في القارة الأفريقية، فهو، بصرف النظر عن دوافعه المتعددة، يشكل نقلة نوعية في نمط التعاطي مع القارة المنكوبة يعززها التخوف السائد في أوساط واسعة في الغرب من عولمة الاقتصاد.

ولكن اعتماد أفريقيا المتزايد على سخاء الغرب ومساعداته لا يخدم استقلال القارة ولا اقتصادها.

سياسيا، توقع الدول الأفريقية تعويما ماليا متكررا من الخارج يدفعها لأن تصبح أكثر «اتكالاً» على الدول المانحة، وبالتالي أكثر قبولاً بتوجهاتها، مما قد يحول سياسة المساعدات الى شكل من أشكال النفوذ الغربي ـ ولا نقول الاستعمار ـ غير المباشر، خاصة أن من حق الدول المانحة وضع شروط لإنفاق مساعداتها وحتى مراقبة أوجه هذا الإنفاق.

أما اقتصادياً، وإذا جازت العودة الى سيرة الدول القلائل في العالم الثالث التي تخطت «اقتصاد الحاجة» بعد تحررها من الاستعمار، يبدو من تجربة هذه الدول أنها لم تتجاوز حالة الفقر بتلقي المال... بل بتوليد المال في إطار برنامج اقتصادي متكامل، فالصين، مثلا، بدأت مسيرة نموها بعد قرارها الجريء عام 1978 بالانفتاح، تدريجيا، على الأسواق الخارجية، والهند تجاوزت حالة اقتصاد الحاجة مع قرارها البدء باستقبال الاسثمارات الخارجية عام 1982، وكذلك فيتنام بعد إطلاقها لبرنامج الإصلاحات الواسعة عام 1986 .

باختصار، المساعدات الخارجية لا «تشتري» النمو الاقتصادي للقارة الأفريقية. في أحسن الحالات تمنح دول القارة «فترة سماح» لصياغة الاستراتيجية الملائمة لإصلاح اقتصادها بحيث يصبح جديرا بالمساعدة، أولاً، وواعداً بالنمو ثانياً... ولكن قبل «فترة السماح» هذه تحتاج دول القارة الى «فترة راحة» ـ طويلة جدا ـ من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية، ليس فقط لتأمين المناخ المواتي للإصلاح، بل أيضا لإقناع الدول المانحة بمصداقية اهتمامها بمجتمعها المدني ـ وهو، في نهاية المطاف، المقصود بالمساعدات المالية.