إصلاح الفكر.. لإصلاح الدولة..!

TT

في حوارنا المتشعب والمشحون هذه الايام حول عوائق وآفاق التحول الديمقراطي في البلاد العربية، نغفل إشكالا نظريا ومجتمعيا محوريا نادرا ما يستثير اهتمامنا هو ذلك المتعلق بطبيعة وتركيبة الدولة العربية نفسها.لقد انقضى من دون شك التصور الطوبائي الساذج الذي ساد عقودا متواصلة في الايديولوجيا القومية بأن الدولة الوطنية المستقلة هي مجرد دويلة صنعها الاستعمار، فاقدة الشرعية ولا مستقبل لها. فالمفكرون القوميون الجادون اعادوا النظر في هذه المفاهيم البالية، وطرحوا تصورات بديلة للمشروع الاندماجي العربي، من منظور يراعي المعطى الوطني في خصوصيته، كما يراعي دروس التجارب الوحدوية الناجحة في عالم اليوم، التي تراوحت بين الفيدرالية المرنة والشراكة الاندماجية الوظيفية.

ومع ذلك، ليس هذا الموضوع الحيوي بموضوعنا اليوم. فما نريد ان نعالجه هو شكل الدولة القائم نفسه، الذي لا يزال علماؤنا في الاجتماع والسياسة متعثرين في وصف خصائصه وضبط سماته، يتأرجحون بين توظيف المقولات الخلدونية حول الدولة العصبية لابراز بعض سمات الكيان العربي الراهن واستخدام القاموس السياسي الجديد المستند في الغالب لمفاهيم ماكس فيبر حول الشرعية للوقوف على سمات اخرى ذات صلة بنمط البناء السياسي الحديث.

ولا شك ان مرجع الاشكال عائد الى تداخل وتعايش انماط عتيقة وجديدة في تركيبة الدولة العربية الراهنة.

واذا استخدمنا اصطلاحات بعض علماء الاجتماع السياسي المعاصرين في تصنيفهم للعالم الى ثلاثة انماط من الدول هي: الدولة ما قبل الحديثة والدولة الحديثة والدولة ما بعد الحديثة، امكننا القول ان الدولة العربية الحالية تستبطن هذه النماذج الثلاثة، ولو بطريقة اشكالية متوترة، تترك أثرها السلبي الحاد على مسار التحول السياسي.

فالشكل ما قبل الحديث بارز في حضور وتوظيف البنيات العصبية في النظام السياسي، في حين تقوم الشرعية الدستورية والقانونية على مفاهيم السيادة والمواطنة بدلالتها الحديثة، وتبرز السمات ما بعد الحديثة في الفراغات المترتبة على تراجع مبدأ السيادة سواء في دلالته النظرية (مبدأ السيادة المشتركة كمفهوم بديل) او في دلالته الاجرائية العملية (المترتبة عن سياق العولمة).

وكما بينت الفيلسوفة الفرنسية مونيك كاستيو، فان ما يتهدد دول العالم الثالث هو نمط من ائتلاف النسق ما قبل الحديث والنسق ما بعد الحديث، يفضي الى تآكل وانهيار الدولة الوطنية الوليدة التي لا تزال أسس السيادة والمواطنة فيها ضعيفة، هشة.

وتوضح كاستيو ان دينامية الحداثة تشجع هذا التحالف، ذلك انها باعتمادها مفهوم الحق المطلق في الاختلاف الفردي في مقابل كونية الذات الحديثة، تدعم وتبرر كل ضروب الخصوصيات والهويات الثقافية والقومية.ويمكن ان تستوعب هذه التعددية الاختلافية شتى الاصوليات الدينية المغلقة والطوائف والملل الاهلية، بقدر استيعابها لمجموعات التميز الجنسي او الاجتماعي.

وبالرجوع للوضع العربي، نلمس هذه الحقيقة ساطعة راسخة. فمفهوم السيادة الوطنية يتعرض لامتحان عسير من اطراف ثلاثة: القوى العصبية التقليدية الرافضة بذاتها لهذا المبدأ، والتشكيلات الايديولوجية التي تنفيه من منطلق اولوية الامة كرحم انتماء روحي وقومي، وتنظيمات المجتمع المدني المتعولمة وبعض قوى المعارضة التي تطرح خيار التدخل الخارجي لإصلاح الاوضاع الداخلية من منظور المفاهيم الجديدة للسيادة المقيدة او المشتركة، واولوية حق الانسان على مبدأ السيادة ذاته.

فماذا ينتظر المواطن العربي من دولته راهنا؟ وعلى من تقع مسؤولية الاصلاح؟

في اطار التعرض لهذا الاشكال، لا بد ان نتذكر ان نموذج الدولة اضطلع تاريخيا بمهمتين اساسيتين: نشر الدين او العقيدة وتجسيد الروح القومية. فشكل الدين او الامة السياج الرمزي لنمط الكيان السياسي المركزي المحتكر للعنف.

واذا كان عدد من المفكرين الغربيين المرموقين قد اشاروا منذ دتكوفيل في القرن التاسع عشر الى فقر المعين الرمزي للديمقراطيات الحديثة القائمة على عقد توافقي محض لا قداسة فيه مهما سعى العقل السياسي الحديث الى اضفاء اللبوس الديني عليه، فان الاشكال المقابل المطروح على الفكر السياسي العربي هو الخروج من اسر «السياج الرمزي» (حسب عبارة اركون) لاستنبات واستيعاب المفاهيم السياسية الحديثة.

واذا كان الفيلسوف الالماني كارل شميث قد بين ان التصورات السياسية الحديثة المتمحورة حول مفهوم السيادة هي في حقيقتها تصورات دينية مقلوبة تنتمي للقاموس اللاهوتي، فان الخطاب السياسي العربي بما فيه الاسلامي يخضع لمسار علمنة مستمر وغير واع في الغالب، تطال حتى اسسه المرجعية ذاتها في نظرته لعلاقة الدين بالسياسة ونمط العلاقة بين المجتمع والدولة، مما كنا قد وقفنا عنده سابقا في رصدنا لما دعوناه بظاهرة «العلمانية الملتبسة».

ان هذا التداخل بين اشكال التنظيم السياسي واصناف الشرعية وانماط القاموس الديني ـ السياسي يطرح اشكالات عصية على الفاعلين في الحقل السياسي الذين يتحملون بأجمعهم درجات متفاوتة من المسؤولية في واقع الاحتقان القائم (اي الدولة والقوى السياسية وتنظيمات المجتمع الاهلي).

ان الخروج من هذا المأزق يتطلب حسب اعتقادنا اعادة التفكير بصفة معمقة في مفردات التحول السياسي المتمحورة حول اشكالات ثلاثة، نادرا ما تعالج بعيدا عن الاشتباك الايديولوجي المحموم، وهي:

ـ علاقة الدين بالسياسة: هل الدين اساس الشرعية ام مرجعية تشريعية او ارضية ثقافية رمزية؟ وما آثار كل من هذه الخيارات على البنية المؤسسية للدولة؟

ـ علاقة الدولة بالامة: هل يناط بالكيان السياسي تجسيد الامة في روحها القومية وهويتها الثقافية والحضارية على شكل نموذج الدولة الاوروبية الحديثة؟ وما هي الامكانات الواقعية لهذا الخيار ضمن المنظور الاستراتيجي الاقليمي والدولي؟

ـ علاقة الدولة بالمجتمع: هل ستكتفي الدولة باعادة انتاج الروابط والسلط الاجتماعية، وتعكس واقع هذه البنيات التي لا تزال تتحكم فيها الى حد بعيد الهرمية العصبية والطائفية، ام ستعتمد نهجا انقلابيا على هذه البنيات بفضل ديناميكية التغيير والتحول التي تختزنها الفكرة الديمقراطية نفسها؟

ان هذه الاشكالات الثلاثة، لا سبيل لتجاوزها والسكوت عنها في اي حوار جاد حول اجندة الاصلاح السياسي وآفاقه.