العراق والجوار: تهديد الإرهاب بعد تهديد «الديموقراطية»..!

TT

بقي الاتهام الذي يوجهه الأميركيون، ومعهم بعض العراقيين، الى الدول المجاورة ومن بينها دول عربية، هو ان هذه الدول تتدخل في الشأن العراقي الداخلي وتسعى لإغراق الأميركيين في مستنقع جديد كغرقهم الشهير والمعروف في المستنقع الفيتنامي لأنها تخشى انتقال عدوى التغيير والديموقراطية إليها ولأنها تشعر ان استتباب الأوضاع الأمنية والسياسية في بلاد الرافدين سيشجع الولايات المتحدة على الانتقال بتجربتها الى دولة شرق أوسطية جديدة.

والحقيقة ان مواقف معظم الدول المجاورة للعراق وإن هي اختلفت وتضاربت وتعارضت، إزاء الكثير من جوانب ما حدث بمجــرد اندلاع الحرب الجديدة في مارس ( آذار ) عام 2003، إلا أنها اتفقت كلها على ضرورة ألا تكون مهمة الأميركيين سهلة وألا يكون انتصارهم رخيصاً وأن منع انتقالهم الى دولة جديدة في المنطقة يقتضي إغراقهم في المستنقع العراقي حتى الذقون.

لا شك في أن كل دول المنطقة، ومن بينها دول الجوار، فرحت بإسقاط نظام صدام حسين وأيدت إزاحته وإزالته لكن بعض هذه الدول، ومن بينها دول عربية، بالتأكيد أسعدها ان تضرب هذه الحرب الجديدة عصفورين بحجر واحد، فتؤدي الى التخلص من نظام أرعن ومتهور ودموي بقي يشكل مصدر قلق وعدم استقرار للإقليم كله لسنوات طويلة، وفي الوقت ذاته تقطع الطريق على تطلعات ومخططات معتوهي الادارة الأميركية الذين يظنون ان بلادهم يجب ان تأخذ موقع الإمبراطورية الرومانية، فتدير العالم مــن أقصاه الى أقصاه كحديقة خلفية للبيت الابيض في واشنطن.

لم تُقدِّمْ بعض دول الجوار أي إسناد حقيقي لعوامل عدم استقرار الاوضاع الامنية في العراق. ولكن ولأن تصريحات «معتوهي» الإدارة الاميركية أخافتها وأشعرتها بأن دورها قادم لا محالة، وأنها مدرجة على لوائح التغيير في المنطقة فإنها أحست بارتياح داخلي، لا حدود له، عندما بدأت القوات الاميركية تغوص في أوحال بلاد الرافدين. وعندما باتت المؤشرات تدل على ان أميركا أقحمت نفسها في ورطة معقدة، وأنها لن تخرج من هذه الورطة بسهولة في فترة قريبة، وان حلمها بالانتقال من هذا المربع الشرق أوسطي الى مربع آخر غدا مستحيل التحقيق.

لكن وبالطبع، وهذا لا يزال مستمراً حتى الآن، فإن دولاً أخرى من دول الجوار وجدت، ومنذ اللحظة التي بدأت فيها القوات الاميركية تجتاح العراق، ان الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع وأنه من الأسلم والأجدى لها ان تخوض معركتها المؤكدة مع الاميركيين ليس على أراضيها وإنما على الارض العراقية ولذلك فإن هذه الدول لم تترك وسيلة من وسائل التدخل في الشأن العراقي الداخلي إلا ولجأت إليها ومارستها بالطول وبالعرض وبالأشكال كافة.

كان على الاميركيين ان يعرفوا هذا مسبقاً وان يستعدوا له، قبل إرسال جيوشهم لتحتل العراق، إذْ من غير المعقول ان تبقى دولة مثل إيران أو سوريا مكتوفة اليدين وتنتظر وصول القوات الاميركية الى قلب عاصمتها، وهي تسمع كل تلك التهديدات الحمقاء والرعناء التي بقي يطلقها «معتوهو» الإدارة الاميركية، ومن بين هؤلاء وولفتز ورامسفيلد، قبل ان تتلقى أنوفهم كل تلك اللكمات المـُدْمية، والتي هددوا فيها بأنهم قادمون لتغيير المنطقة كلها وليس لتغيير دولة واحدة.

لم يكن باستطاعة أي كان أن يُقنع الايرانيين والسوريين بأن عليهم ان لا يخوضوا معركتهم مع الولايات المتحدة على أرض العراق، وإن المطلوب منهم ان ينتظروا وأن يتحلوا بالصبر وبالروح الرياضية، الى ان يصل السكين الاميركي الى أعناقهم.. لقد كان على عقلاء الادارة الاميركية ان يدركوا ويعرفوا ان التهديدات التي أطلقها بعض زملائهم عشية الحرب وأثناءها وبعدها، ستؤدي الى حالة استنفار قصوى في دول المنطقة كلها وان بعض هذه الدول، لأنها بدأت تشعر بأنها الأكثر استهدافاً، لن تبقى مكتوفة الأيدي وأنها لن تنتظر مصيراً كمصير صدام حسين ونظامه.

لقد اعتبر بعض العراقيين ان سبب هذا الموقف الذي اتخذته بعض دول الجوار، هو الخوف من التجربة الديموقراطية العراقية. والحقيقة ان هذه الدول أو بعضها أصابها الذعر بعد ان رأت نظام صدام حسين يتهاوى تحت جنازير الدبابات الاميركية، وبعد ان رأت تماثيله وأصنامه يشنقها الجنود الاميركيون بحبال دباباتهم. وكان المفترض ان تغلق الولايات المتحدة فمها وان تترك الأمور تسير سيراً طبيعياً وبدون تهديد ولا وعيد، وان تقدم الى شعوب المنطقة، بعد استتباب الأوضاع الامنية في العراق، تجربة ديموقراطية حقيقية وغير مشوهة.

لو أن الإدارة الاميركية لاذت بحكمة الصمت، وتركت الأمور تسير سيراً طبيعياً وعملت على إنضاج «التجربة الديموقراطية العراقية» بدون ضجيج ولا صخب وبدون ان تواصل هز قبضتها، سابقاً ولاحقاً، أمام أنوف أنظمة المنطقة وقادتها وشعوبها أيضاً، فإن المؤكد ان كل هذا الاستنفار الإقليمي المعادي والرافض، لن يكون، وان المؤكد ان هذه «التجربة الديموقراطية» ستتسرب الى الدول المجاورة بسلاسة، وان شعوب هذه المنطقة ستستقبلها بالأهازيج والزغاريد، وستدافع عنها وستحميها من سطوة وبطش الأنظمة.

إن الخطأ الفادح الذي ارتكبه الأميركيون هو أنهم أشعروا شعوب هذه المنطقة قبل أنظمتها أنهم قادمون بالديموقراطية فوق ظهور دباباتهم، وأنهم سيفرضون هذه الديموقراطية بالطريقة نفسها التي فرضوها في بغداد. ولذلك فقد اتخذ الجميع شعوباً وأنظمة حالة الدفاع عن النفس التي تجسدت إن بالصمت والرضا وإن بالأقوال والأفعال، والعمل على إغراق الأميركيين في الأوحال العراقية، ودفنهم هم وديموقراطيتهم في هذه الأوحال.

لم تعد شعوب المنطقة تنظر الى التجربة العراقية، بسبب الأخطاء القاتلة الكثيرة التي ارتكبها الأميركيون، على أنها تجربة يجب ان تُحتذى. فباتت هذه التجربة، حتى بالنسبة للذين كانوا وما زالوا مع التخلص من صدام حسين ونظامه، مضرب مثل على الفوضى والاقتتال وإراقة الدماء. ولذلك فإن دول الجوار باتت تخشى، ليس من ان يصدر إليها العراق الديموقراطية، وإنما ان يتحول هذا البلد الى أفغانستان ثانية، ويُصدِّر إليها الإرهاب وألف «قاعدة» وعشرات الألوف مـن أمثال اسامة بن لادن.

إنه شيء مؤكد ان بعض انظمة المنطقة خشيت من عدوى الديموقراطية العراقية، في حال استقرار الأمور وهدوء الأوضاع، كخشيتها من الدبابات الأميركية القادمة الى المنطقة تحت بيارق التغيير بالقوة. لكن ما هو مؤكد أيضاً ان هذه الأنظمة ومعها شعوبها باتت أكثر خشية من ان تتردى الأمور في العراق أكثر مما هي متردية الآن، وان يصبح هذا البلد ليس مصدراً لنموذج ديموقراطي، وإنما لأنماط من الإرهاب أكثر فتكاً وتدميراً من النمط الأفغاني الذي جسدته حركة «طالبان»، ومعها أسامة بن لادن وقاعدته.