الإصلاح في مصر.. إشكالات آيديولوجية مؤجلة..!

TT

لم تنقطع الأصوات المطالبة بالإصلاح الديمقراطي ـ فردية وجماعية ـ في مصر طوال نصف القرن المنصرم الذي تراجع فيه المطلب الديمقراطي بشكل رئيس عما كان عليه في العهد الليبرالي قبل الثورة، وهو ما مثل تربة خصبة لما تولد خلال العام الفائت من ظهور أشكال جديدة للمعارضة بمنأى عن الأحزاب والحركات التقليدية المعارضة الشرعية أو المحجوبة عن الشرعية، وتحت شعار بسيط، ولكن جسور في الآن نفسه، «لا توريث ولا تمديد»، كان طرح حركة كفاية هذا المولود القوي منذ عام فقط، والتي كانت انتقالا استفز وأحرج القوى التاريخية الأخرى، التي بدأ بعضها التشكيك في قيادتها شأن رفعت السعيد رئيس حزب التجمع اليساري، أو اتهامها بالعمالة الخارجية أو الداخلية لقوى ما داخل النظام، كما يشيع البعض الآخر،، فأول ما يميز حركة كفاية التي نشـأت في التاسع من أغسطس من العام الماضي عن سياق المعارضة المصرية التقليدية، هو أنها أول حركة ترفض تمديد الحكم أو التوريث، وكان أهم إنجازاتها أنها جعلت من عملية التوريث هذه أمرا صعبا وربما غير متصور، كما دفعت في اتجاه إيجاد حراك سياسي شجع فئات مهمة من صفوف المعارضة مثل الاخوان المسلمين على النهوض، والمطالبة بالإصلاح السياسي الداخلي. بل بدأت في إنجاب عدد من الحركات الصغرى التي ترفع نفس الشعار، كـ «شباب من أجل التغيير» و«محامون من أجل التغيير» وغيرها، كانتقالة في الخطاب والممارسة

أتاح انفتاح الشعار ـ الغالب لكفاية تنوع تكويناتها وأفرادها من مختلف الناشطين الحزبيين وغير الحزبيين الرافضين لاستمرار الوضع القائم أو التكريس المستمر لرغبات وسلطة الأمر الواقع، واليائسين من قوالب وتسلط المعارضة التقليدية التي قنعت معظمها بحلة الشرعية التي تلبسها تاريخيا واجتماعيا، وصبغت كثيرا من خطاباتها بكثير من المزايدة على الوطنية وعلى الإصلاح نفسه حرصا على مكاسبها، وهي الحلة واليافطة التي تتيح احتكار السياسة في عالمنا العربي، رغم عدم توافرها بشكل كبير، كما تجاوزت كفاية الحلة التاريخية والتقديسية والزخم التاريخي الذي يملكه الإخوان المسلمون ويمثل عاملا مهما لآمالها فضلا عن شعبيتها.

وسواء أنكرت كفاية أو أقرت ـ هي وغيرها ـ فلا شك أن المناخ الدولي الذي أعقب احتلال العراق والتركيز على التحول الديمقراطي في المنطقة، من قبل إدارة بوش، وتوتر العلاقات المصرية الأميركية، كان مساعدا كبيرا في امتداد الطرح وقصر يد النظام المصري عن وأدها سريعا.

ولا يمكن القول ان ما تطرحه كفاية أو الحركات والتجمعات المتولدة عنها كاف في مواصلة النضال وتحقيق الإنجاز الديمقراطي الذي تطمح فيه قوى الإصلاح في مصر، وهو ما سبق أن ناقشه مركز الدراسات العربية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة في الثاني من مايو الماضي، ونأمل أن يناقشه المؤتمر العام لها المقرر عقده هذا الشهر، حيث تحتاج كفاية لمزيد من التطوير في الممارسة والخطاب في آن واحد، فلم يعد الشعار الذي أخلاه النظام من مضمونه حيث صارت هناك انتخابات رغم كل التحفظات على تحقيقها، كما أنه ليس لأحد حقيقة ـ نظاما أو معارضة ـ أن يراهن على الشعبية الصامتة التي لم تعد تعرف من السياسة إلا مرادفات الاعتقال والسجن، وخطاب التعيين الأمني، أو تربطها بالمصلحة والخدمات الخاصة.

فالأمر محشور بين نخب، سياسية واقتصادية وثقافية محدودة، دون أن تملك زخما أو وقودا جماهيريا متعاطفا أو منشغلا أساسا بأطروحاتها. وكما اجتذبت كفاية نخبا نقابية وفئوية في القضاء خاصة وغيره، فإن النظام يملك وسائل تأثيره وضغطه كذلك على هذه الفئات، كما أن منطق الجزر المنعزلة المائج بالجدل المتوافق في مطالبه والرافض للتعاون منتشر في فضاء المعارضة المصرية، من قبيل رفض التعاون من الاخوان أو الخارج أو عملاء الخارج وفق بعض التعبيرات أو الولايات المتحدة، بينما تجد فاعلين آخرين فيه يتبنون هذه الأطروحات بشكل أساس. والسؤال هنا: هل تدار أجندة الانفتاح العامة بأجندة آيديولوجية أو هوياتية مغلقة؟، كما أن تحييد العديد من الوجوه المستقلة خطابيا وممارسة في أجندة كفاية وغيرها، والإصرار على قلب الصورة كلية دون قدرة على تعديلها بعض الشيء، أو السعي لذلك إشكالات تهدد فاعلية كفاية وغيرها من قوى الإصلاح الجديدة، فضلا عن عدم القدرة لدى الجميع ـ وليس فقط النظام ـ على المواءمة بين المطالب الديمقراطية أو الإصلاح، وبين العوائق البنيوية في الخطاب لديها من قبيل الخصوصية ويافطة الشرعية، ورفض الانغماس في حركة العالم التي تستثمرها كل قوى الإصلاح في أي دولة مغلقة، وما نخشاه، هو أن تدير سلطة الآيديولوجية أجندة الإصلاح كما تدور حوله آيديولوجية السلطة ذاتها.

* كاتب مصري