آتاتورك يعبر الجزائر خطأ

TT

ما أصعب أن نفهم الآليات التي تحرك عقول النخب السياسة الحاكمة! فقبل شهور قليلة تحمس الرئيس الجزائري بوتفليقة لمشروع إصلاح قانون الأسرة ، ثم خضع لضغط الإسلاميين وتراجع في مسألة رفض شرط الولي في زواج المرأة، وهي من النقاط التي أثارت الجدل والغضب. وقد أكد ذلك الجدل الساخن والصراع القوي، حقيقة أن القوى الإسلامية المحافظة لا تزال تتمتع بالفعالية والتأثير والسطوة على المجتمع..

وإذا ما أردنا أن نقرأ هذه الخطوة الصدامية والمباشرة جدا، فإننا نجد أكثر من قراءة ومن فرضية. ومن الظاهر أن هذا القرار التاريخي في المعنى السلبي، يستند إلى خطة طموحة ترمي إلى تسجيل عدة أهداف في مرمى واحد.

كما تشير طبيعة القرار المقصود إلى عزم النخبة السياسية الحاكمة إعلان توترها الحاد مع المحركين للمجال الديني في الجزائر، وذلك بعيدا عن أساليب المناورة والتكتيك السياسيين، اللذين عادة ما يلجأ إليهما السائس، إذا ما طمح إلى إضعاف القوى الدينية. ولذلك فمشروع الإصلاح الذي تتبعه الجزائر اليوم يخضع إلى الانفعال كعيب خلقي، لا تنفع معه كافة عمليات التجميل وحتى الجراحة.

وإذا ما نظرنا في تجارب إصلاحية تحديثية تتسم بتوجهات علمانية، فإن الظروف التي أنتجت جرأة غير عادية، لا تمتلك منها النخبة السياسية الحاكمة في الجزائر الشيء الكثير. وحتى بورقيبة ما كان له أن يفرض إصلاحاته الثورية لولا ضربه للحديد وهو ساخن، أي الحصول على الاستقلال واستمداد المشروعية السياسية من دوره في استقلال تونس. بمعنى أن الرجل سمح لنفسه بخوض مغامرة الإصلاح بتوجهات علمانية لأنه كان قويا بمشروعيته السياسية وبوعوده المفتوحة.

وعندما فشلت تجربة التعاضد في تونس وظهرت المعارضة الإسلامية الراديكالية وكذلك المعارضة الليبرالية، شهدت التوجهات العلمانية تراجعا، علما بأن بورقيبة كان يتفادى الصدام المباشر، واتبع خطة تفضي بطبيعتها مع الزمن إلى إضعاف الفاعل الديني.

لذلك فإنه وإن سعى إلى إلغاء التعليم الزيتوني، فور إمساكه بمقاليد الحكم، وتهميش خريجي اختصاص الشريعة الإسلامية، فإنه لم يشطب مادة التفكير والتربية الإسلامية من مواد التدريس، بل اجتهد وحدد رؤية تتعامل مع الشريعة بطابع انتقائي وتربطها بكل ما يخدم توجهات الدولة الحديثة مع تشجيع كل العمل ونبذ الكسل وإعمال العقل وإذكاء ملكة الاجتهاد. ونعلم أن كثيرين يرون في بورقيبة الابن الروحي لكمال آتاتورك، ولا يعلمون ان بورقيبة يمتلك رؤية انتقادية لتجربته صرح بها في رسالة بعثها إلى ابنه في بداية الخمسينات ونشرت في كتب كثيرة.

أما قرار الدولة الجزائرية الأخير، فهو يفتقد إلى وهج اللحظة والعوامل المساعدة على تمرير قرار في مستوى هذه الجرأة. ونعني بذلك أن توقعات كثيرة للشعب الجزائري ما زالت تنتظر الإشباع، وبالتالي فإن للنخبة السياسية الحاكمة خطوطا لا تستطيع أن تتجاوزها، إلا إذا تقدمت في مسألة إشباع توقعات الشعب الجزائري خطوات فعالة وملموسة.

من جهة أخرى فإن قرار إلغاء تدريس الشريعة الإسلامية، مجاني في أغلبه ولا يخدم أي طرف لا العلمانيين ولا الإسلاميين ولا حتى القوى الأجنبية. وسيكون مصير القرارات التي تؤخذ في إطار تصفية الحسابات مع أحزاب أخرى معارضة الانتحار على أرض الواقع. والشعب الجزائري الذي عاش ويلات الاستعمار الفرنسي ومأساة العشرية السوداء، لا يستحق من رجال دولته أن يحشر مصيره وهويته وشخصيته العربية والأمازيغية والإسلامية في حسابات الصراعات الضيقة!

أيضا للمجتمع الجزائري تاريخ خاص مع من استهدفوا هويته. فالاستعمار الفرنسي الذي حمل صبغة الحماية في تونس والمغرب، حمل طابع الاستيطان في الجزائر. لذلك استهدفت هويته الثقافية، ومن خلالها تم القضاء على الاستعمار، بل ان الإسلام هو الحقيقة الأكثر تغلغلا في الهوية الجزائرية، ووحده الذي تمكن من جمع العربي بالأمازيغي، وكان الإسلام محرك الثورة الجزائرية ووقودها. والدين كما يصفه عالم الاجتماع لوبرا غابريال طاقة وقوة ومؤسسة. إن النخبة السياسة الحاكمة في الجزائر بصدد ارتكاب خطأ فادح يتمثل في الخلط العشوائي بين الإسلام كدين وكشريعة، وبين الإسلاميين الذي وظفوا الإسلام في غايات سياسية مصلحية.

وإذا كانت هذه النخبة الحاكمة تعتبر أن إلغاء تدريس الشريعة الإسلامية في التعليم الثانوي يقطع نسل الإرهابيين، فإن هذا الاعتبار يحتاج إلى مراجعة دقيقة وعميقة.

ذلك أن الجاهل بالشيء أخطر من العالم به. وكي لا تقع الأجيال القادمة في نفس المأساة، كان لا بد من الاجتهاد الإيجابي والعلمي وخلق حصانة دينية وتنشئة دينية صحية للفرد الجزائري.

ومثل هذه التنشئة تشارك في القيام بها مؤسسة الأسرة والمؤسسة التربوية وكلاهما فاعل في ما يسميه بيار بورديو ببناء العقول. إن أغلب الظن أن كمال آتاتورك قد عبر الجزائر خطأ!