الإرهاب صناعة ثقافية

TT

سمعنا بعد اعتداءات لندن الإرهابية الأخيرة، نفس التحليلات السائدة حول جذور الإرهاب والتطرف، التي تتركز حول التحليل الاقتصادي ـ الاجتماعي لظاهرة العنف الراديكالي من حيث هو مظهر عدمي لأزمة مجتمعية عميقة، سمتها الفقر وانعدام الفرص والبدائل والانغلاق في البنيات الاستبدادية.

كثيرون ذهبوا إلى هذا المنحى تفاديا لنغمة استفزازية معادية للإسلام والمسلمين، تربط بين الإرهاب وجوهر الدين الإسلامي، والبعض انساق وراء هذا التحليل لأسباب آيديولوجية سياسية آنية، بيد أن هذا النموذج التحليلي له إغراؤه الواسع داخل حقل الدراسات الاجتماعية والسياسية، ويستند، من دون شك، لمسوغات عديدة، لا غبار عليها.

فلا أحد بإمكانه أن ينكر أن الفقر والتهميش والاستبداد والغبن عوامل تساهم في تفريخ التطرف والإرهاب، إلا أن المعاينة الدقيقة لخلفيات ومسارات الإرهابيين الجدد من أفراد تنظيم «القاعدة» والمجموعات القريبة منها، تبين أن الأمر يتعلق هنا بنموذج جديد لا يمكن استكناهه بالمعايير المذكورة آنفا.

فالانتحاريون الذين فجروا أبراج نيويورك، كما لاحظ الجميع، هم من أبناء الطبقات الميسورة، وأغلبهم تعلم في الغرب وتخصص في أحدث العلوم والتقنيات، وقد وظفوا اندماجهم في نظام العولمة القائم على التقنيات الاتصالية من أجل إبلاغ رسالتهم عن طريق العنف الراديكالي الأقصى.

فالذين انساقوا وراء إغراء التحليل الاقتصادي ـ الاجتماعي لظاهرة الإرهاب، انطلقوا في الحقيقة من وهم شائع، مفاده أن الحقيقة والموضوعية والصدقية الأخلاقية هي سمات ملازمة للثقافة العامة الخاصة بالنخبة المفكرة المندمجة، في حين يرتبط التعصب والعنف بالجمهور العاجز عن التفكير خارج قوالب التقاليد الموروثة والميال للانقياد وراء دعوات التطرف الجامحة التي تستغل تردي أوضاعه لحمله على التمرد والثوران.

ويتّخذ هذا التصوّر عدة صيغ، من بينها صيغتان رائجتان هما:

ـ النقدية الاستعلائية: أي النظر إلى التمثلات الجماعية بصفتها موطن الخطأ والخطل، فالعامة من هذا المنظور عاجزة عن ممارسة التعقل الموضوعي، تحركها الأسطورة والخيال وتستبطن و تستمرئ لا شعوريا الاستغلال والاستبداد، لذا كان دور المفكر بصفته حارس العقلانية ومحتكرها، هو بلورة النماذج المجتمعية والفكرية التي تلائم موضوعيا حاجيات المجتمع وتطلعاته.

ـ القطيعة العدمية: أي اليأس من محاولات إصلاح الشأن الجماعي، والنظر إلى ظواهر الاستبداد والقمع والاستغلال بصفتها ملازمة للوضع الاجتماعي حتى في المجتمعات التي تتخذ فيها هذه الظواهر أشكالا رخوة سلسة، كما هي حال المجتمعات الغربية المعاصرة. ونلمس هاتين الأطروحتين في الفكر الفلسفي على اختلاف محطاته التاريخية من أفلاطون والفارابي حتى فوكو و دريدا.

لكن ماذا لو كان المثقفون أنفسهم هم أكثر من غذى نوازع التعصب والتطرف؟

لا شك أن في السؤال مسحة استفزازية جلية، بيد أن الحقيقة التاريخية الماثلة أمأمنا هي أن الأنساق العقدية والآيديولوجية المنغلقة والطوبائيات المدمرة التي أريد تطبيقها بالعنف والإكراه، هي كلها من صنع المثقفين ونتاج أفكارهم.

فدوما ننسى أن العقلانية لا تحمي من التعصب، بل هي أمضى سلاح لتبرير الانغلاق وتسويغ التفاوت والاستبداد. ولقد تفطن نيتشه إلى هذه الحقيقة، وبسط فوكو القول فيها مبينا أنماط اقتران السلطة والمعرفة وكيف يمكن أن تصبح إرادة الحقيقة مسلكا للإقصاء والهيمنة.

ومن الغريب المثير أن أبرع العقول في تاريخ الفكر الإنساني وقفت في الغالب مع الاستبداد والتسلط ووظفت منظومتها الفكرية لتبرير القمع والتعصب. فعرف مؤسس الفلسفة أفلاطون بنقده الراديكالي للديمقراطية الأثينية، التي أراد استبدالها بديكتاتورية الفلاسفة، ومارس التيار العقلاني الاعتزالي صاحب النظرة التـأويلية المنفتحة أقسى البطش ضد معارضيه الرافضين لفكرة خلق القرآن الكريم، وفي حين كان الصوفية يصلبون دفاعا عن أفكارهم وأذواقهم، كان فلاسفة الإسلام من امثال الفارابي وابن سينا وابن رشد من حاشية الحكام، كما كان سلفهم الأوروبي في نفس الموقع وفي مقدمتهم أب الفلسفة الحديثة ديكارت.

ولقد صدرت أخيراً كتب عديدة، كشفت بالدليل، كيف انساق أبرز المفكرين الألمان لأكثر الدعوات عنصرية وتطرفا أيام الحكم النازي وفي مقدمتهم أكبر فلاسفة العصر الحديث مارتن هايدغر، ومعاصره كارل شميت.

وتلك هي القاعدة، لا الاستثناء في الساحة العربية. ولقد ذهلت مرة خلال أيام الاحتلال العراقي للكويت، حين سمعت أحد أبرز المفكرين العرب المقروئين على نطاق واسع، يبرر احتلال الكويت بالرهان على «العنف المقدس المؤسس» من أجل «نهضة عربية جديدة تدمر الموجود وتحرك السواكن».

فليس من الصحيح إذن أن جذور التعصب كأمنة في الجمهور وثقافة الأسطورية (وهي النغمة التي يروجها أيضا محمد أركون بالاستناد لخلفية انتربولوجية هشة)، بل إن المجموعات الإرهابية، وإن تمكنت أحيانا من استمالة التعاطف الشعبي العام في عملياتها العدوانية، إلا أنها في الواقع معزولة وذات تركيبة نخبوية وتصدر عن طوبائيات صنعها المثقفون، وليس لها علاقة بنمط التدين العمومي الميال للسلم، ولولا الصياغات النظرية وعملية التحليل السياسي والاجتماعي التي تعقلن تصرفاتها، وتفسره بأنه ردة فعل ضد الموازين الدولية المختلة، لما حصلت على أدنى تعاطف من الناس.

إن للمثقف عادة دورين متمايزين هما: الوظيفة النقدية، والوظيفة التأسيسية البنائية، وبقدر ما يكون دوره ضروريا ومهما في سلاحه النقدي الذي يقوض المسلمات الهشة ويحارب الجمود والوثوقية والتعصب، يكون خطيرا ومدمرا في تأليفاته النسقية وصياغاته التأسيسية، التي تتخذ في الغالب شكل آيديولوجيات مغلقة وطوبائيات حالمة تفضي ضرورة للتعصب والإقصاء والقمع.