من تفجيرات لندن.. وإلى تفجير في السماء

TT

في وقت متقارب من مطلع يوليو 2005م حدث تفجيران، الأول كان في أنفاق لندن وهدفه خطف أرواح الناس، وأما الثاني فكان تفجيراً في السماء، وكان هدفه حماية أرواح الناس من اصطدام مذنب شارد هائم على وجهه. فقد وجهت وكالة ناسا وبكلفة 270 مليون يورو، ضربة ناجحة لمذنب المعبدTempel 1 الذي يبلغ حجم مدينة متوسطة، خلف حائط المريخ على بعد 130 مليون كم، حملها طيار آلي، قذف رأساً نحاسياً بزنة 370 كغ، وبسرعة تفوق عشرين مرة سرعة قاذفة قنابل، بقوة 4.5 طن من الديناميت، وخرقا بحجم مساحة ملعب بلدي، وأثناء 15 دقيقة تم تصوير التصادم من مسافة آمنة; لينسل المسبار بعدها بعيدا فلا يلتفت، ويرسل دفقا من المعلومات على ثبج البحر الأخضر الإلكتروني إلى الأرض.

أما عن أثر الصدام فلم يزيد عن خبط بعوضة لطائرة بوينغ 767، كما صرح بذاك رئيس مشروع الصدمة العميقةDeep Impact ميشيل ا. هيرن ـ A.Hearn، إلا أنه سينفع في معرفة تكوين المذنب الذي له من العمر 4.5 مليار سنة مذكرا بطفولة الكون، فنعرف خبر هذه المذنبات الخنس الكنس؟ إلا أن هدف العملية الأكبر هو الاستعداد ليوم عظيم، تفاجئ فيه الأرض بمذنب شارد ضل طريقه بأشد من إرهابي جانح. وهكذا فهناك من يبحث عن حماية الجنس البشري، وهناك من يخطف الأرواح.

وقصة المذنبات تعود إلى قبل 65 مليون سنة حين خبط الأرض مذنب في خاصرتها عند المكسيك الحالية، فحفر نقرة بقطر 180 كم، وارتفعت كمية مخيفة من الأتربة غطت وجه الشمس بدخان مبين، وانخفضت حرارة الأرض على نحو حاد، مما أدخلها في عصر جليدي، كانت عاقبته اختفاء الديناصورات من وجه اليابسة قبل 65 مليون سنة.

وهشاشة الحياة والمناخ كبيرة ولا تحتاج لعمل إرهابي، وقتل الناس وترويعهم سهل، والموت ليس صعبا فهو حالة الرجوع إلى التراب، والحياة هي المعجزة.

قامت وكالة ناسا بتجربتها في ضرب مذنب (المعبد) في 4 يوليو في ذكرى الاستقلال الأميركي، كما فعلت من قبل برسو (الباثفايندر) Pathfinder على سطح المريخ عام 1997م. ويبنى حاليا في (كاراداش) في جنوب فرنسا أول مفاعل نووي (اندماجي) Fusion على ظهر الأرض يحمل اسم (ايتر) Iter، بكلفة عشرة مليارات يورو، فيوقدوا نارا مستعرة بحرارة تشبه باطن الشمس بمائة مليون درجة، تطوقها حقول مغناطيسية شديدة الكثافة.

وقصة المذنبات قديمة وهي تزيد عن مائة مليار، في مقبرة موحشة باردة خلف كوكبي نبتون وبلوتو، على حافة نظأمنا الشمسي عند حلقة اكتشفها عالم هولندي هو (أو اورت) O ort، وفي هذا البراد الكوني تجمدت قصة الكون، ومعظم الشظايا سوف تبقى محتجزة في هذه الثلاجة الكونية إلى أبد الدهر، مثل كرات البلياردو التي تتصادم فيما بينها بدون خطر علينا، وبين الحين والآخر تفلت بعض كرات البلياردو هذه لتسوح في رحلة أوديسا لآلاف السنوات تمخر فيها عباب المجموعة الشمسية، فإما امتصت من عملاق المجموعة المشتري كما حدث مع جسم شوميكر، وإما امتصته شمسنا التي يزيد حجمها عن الأرض مليون و300 ألف مرة؟ ونادرا ما يحدث أن يعترض مسير مدار أحد الكواكب فإن حصل كانت الكارثة، وهو ما حاولته بعثة (الصدمة العميقة) أن تقوم بعمل استباقي، هو الأول من نوعه لتجنب كارثة انقراض الديناصورات.

وحسب الإحصائيات فإن كارثة مثل التي وقعت على رأس الديناصورات تحدث كل 50 إلى 100 مليون سنة، ولكنها قابلة للحدوث في أي لحظة، لا يجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة، وهو ما قاله رئيس مشروع (الصدمة العميقة)Deep Impact من جامعة ميريلاند: إنه من أجل وضع استراتيجية دفاعية جيدة فلا بد من معرفة الكثير عن المهاجم؟

وتجاه مخاطر (الرعب الكوني) من مذنبات فقد اقترح أبو القنبلة الهيدروجينية (إدوار تيللر)Edward Teller الهنغاري، بوضع حراسات كونية، من صواريخ نووية، ترصد أي مقتحم للسماء فتهاجمه وتفتته قبل أن يفتك بنا، أو على الأقل حرف مساره، وهو اقتراح لم يفعله بعد أحد، ولكن هوليوود مثلته بفلم عام 1998م بنفس اسم البعثة العلمية الصدمة العميقة Deep Impact، إلا أن الفيلم أظهر فشل المحاولة، مما اضطر العلماء إلى أخذ قسم من البشر إلى سفينة نوح تحت أرضية، وقضي على الحياة، ليخرج الناس بعدها من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع لبناء حياة جديدة.

وتعود قصة كشف المذنب المعبد إلى شاب ألماني هو ارنست فيلهلم ليبيريشت تمبل Ernst Wilhelm Leberecht Tempel الذي عاش في القرن التاسع عشر (1821 ـ 1889) واستحوذت عليه فكرة منذ أن كان صبيا أن يكون عالم فلك Astronom، ولكنه كان فاشلاً في الدراسة فلم يحصل الثانوية، إلا أنه كان شغوفا بالفلك، فكان يقلب وجهه في السماء، يتتبع مجاري النجوم، والمذنبات الخنس الكنس، عله يكتشف عناصر كونية لم يسبقه إليها احد، فاستطاع بمنظار بسيط، وساعات متطاولة من الجهد المتتابع، أن يهتدي في ليلة ربيع صافية في 3 أبريل 1867م إلى مذنب المعبد Tempel، وقال عن تلك اللحظة السحرية: لقد كاد من الصغر والضعف أن يفوتني، وعندما حاول الالتحاق بالدراسة الأكاديمية للقبة السماوية سخروا منه وطردوه بفظاظة، ويعلق على هذا الفنان السريالي الألماني (ماكس ايرنست) Max Ernst لقد كان (تمبل) عبقريا لا بل لقد ولد علم الفك من جديد على يديه، إلا أنه كان سيئ الحظ حينما ولد في بلد لا يعرف قيمة للناس إلا من حمل الدبلوم، فمن لم يحمل الشهادات لا يجوز له اكتشاف الكواكب والمذنبات وعليه أن يصمت؟

وعندما شعر (ايرنست تمبل) أن الأبواب مغلقة في وجهه أعطى الوطن العظيم ظهره، وبحث عن وطن جديد، وفي إيطاليا استفاد من موهبته في الطباعة الحجرية، فوفرت له أن يتفرغ لبحثه الذي به شغف وتعلق، وبإرادة حديدية لا تعرف الراحة وبتلسكوب شخصي وبعمر 36 سنة، استطاع الرجل أن يكتشف خمس كويكبات جديدة و13 مذنباً والعديد من الغازات والسدم الكونية.

وفي إيطاليا حيث لا يعرفونه إلا من إنتاجه من دون خلفيته (الفلاحية كذا؟) فقد عهد إليه برئاسة أعظم مرصد في إيطاليا في (آرسيتري) Arcetri، بعكس بلده الألماني حيث نشأ وترعرع وحاول جاهدا أن يدخل حلقة الفلكيين ذي العقول الضيقة مع كل رحابة السماء، ولا كرامة لنبي في قومه، ومزمار الحي لا يطرب، وحسب فلسفة البليهي (سحر الغموض وهالة الغياب)، وجرت الأمثال العربية بالقول: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه.

وهذا الإنكار المذل للرجل أعاد إليه اعتباره مخرج أفلام ألماني هو (بيتر شاموني)Peter Schamoni في الستينات في فلم (اللاشرعية في علم الفلك) حيث عرض على نحو مؤثر مأساة العلماء وسخرية التاريخ، وكيف حصل مع تمبل ما قال عنه الإنجيل «الحجر الذي رفضه البناءون أصبح حجر الزاوية؟«. وفي عام 1967 م نال شاموني الجائزة الألمانية عن عمله.

وحاليا في بلدة تمبل المتواضعة (نيدركونيرسدورف) Niedercunnersdorf يؤسس ناد يحمل اسم العالم المبعد، وفي مطلع سبتمبر 2005م سوف يقوم ممثل من بعثة الصدمة العميقة بتقديم آخر المعلومات عن نتائج بعثة صدم مذنب المعبد.

أخيرا أكرم (ايرنست فيلهلم ليبيرشت تمبل)، ولكن الرجل غير موجود، وما بقي هو ذكره في تاريخ العلم، ومن يشاهد الحفل خياله، فهذه هي سخرية التاريخ مع المجددين المبدعين والعباقرة المكتشفين؟