الحوار.. من السجال الفكري إلى التحالف الحضاري

TT

نجح المؤتمر الدولي حول تعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات، من خلال مبادرات ملموسة ومستدامة الذي عقد في شهر يونيو الماضي في الرباط، في وضع خطة عمل مدروسة تشتمل على برامج وأنشطة مفصلة، من شأنها إذا نفذت، سواء في إطار تعاون جماعي دولي، أو على مستوى كل دولة على حدة، أن تخرج بفكرة الحوار من طور التنظير والتحليل والمناقشات في قاعات المؤتمرات والندوات وأروقة المهرجانات ومدرجات الجامعات، إلى طور التنفيذ والعمل من أجل أن يكون الحوار وسيلة لتعميق التفاهم والتعايش، وإشاعة الثقة في العلاقات الدولية، ونشر ثقافة العدل والسلام، وإقامة أسس قوية لعالم جديد يسود فيه القانون الدولي، وتعيش الأسرة الإنسانية فيه تحت ظل الأمن والسلام.

لقد وضع الخبراء والمفكرون والباحثون والأكاديميون المشاركون في هذا المؤتمر الدولي الذي شاركت في تنظيمه ست منظمات دولية وإقليمية، خطة عمل درسوها بالقدر الكافي من الدقة والجدية والتحلّي بروح المسؤولية، واختاروا لها اسم: (تعهدات الرباط: خلاصات ونتائج) تغطي مجالات التربية والعلوم والثقافة والاتصال والمعلومات، وتصبُّ في اتجاه بلورة رأي عام دولي يؤمن بالحوار فلسفةً ومبدأً وأسلوباً للعيش، وتنشئة الأجيال الجديدة على قيم الحوار ومبادئه واحترام الآخر والاقتراب منه والانفتاح على ثقافته وحضارته.

وأستطيع أن أقول إنَّ ثمة إرادة دولية مصممة على الانتقال إلى مرحلة متقدمة بالحوار بين الحضارات والثقافات، مما يُعطي لقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بجعل سنة 2001 سنة دولية للحوار بين الحضارات، قوةَ دفعٍ جديدةً في الاتجاه نحو بناء علاقات دولية قوامُها الحوار تكون منحىً جديداً في السياسة الدولية يسعى إلى إزالة أسباب التوترات والاضطرابات والقلاقل التي تهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، بل يصل خطرها إلى تهديد الحضارة الإنسانية في الصميم.

لقد جاء في وثيقة (تعاهدات الرباط) أن الحوار بين الثقافات والحضارات يمكن أن يساهم في الحدّ من التوترات والتهديدات، ومن مختلف مظاهر اللاَّتوازن، شريطة أن تؤمن أطراف الحوار بجملة مبادئ لعلّ من أهمها (قبول الآخر) في اختلافه عنا، واستبعاد مواقف (الاستعلاء) من ثقافة على ثقافة أخرى ورفض الأحكام المسبقة. ولم يكتف المؤتمر بإعلان هذه المبادئ، وإنما وضع برامج مفصلة تبدأ من، ضرورة تطوير المنظومة التربوية لكي تُبنَى على (المواطنة) والعيش معاً، وإيجاد خطاب ثقافي إعلامي جديد يوفّر مقتضيات التمسك بالهوية الوطنية دون انغلاق أو تعصّب، ومع الانفتاح على الآخر ومواكبة العالم في مسيرته الفكرية والعلمية والثقافية الكونية. وهذا المبدأ الأساس الذي يُعدُّ مفتاحاً للبداية الطبيعية لمشروع إنساني حضاري كبير، يشكّل قاعدة ننطلق منها نحو إيجاد المناخ العالمي المناسب الذي تتهيّأ فيه الفرص ليسود الحوار جميع مجالات التعاون الدولي، وحتى يكون بديلاً للصراع والصدام، وسبيلاً إلى التعايش الإنساني الذي يكفل التفاهم بين بني البشر، وتبادل الاحترام فيما بينهم على أساس المعرفة بالآخر، والتعاون معه على ما فيه المنافع المشتركة والمصالح المتبادلة وازدهار الحضارة وتقدم الإنسانية ورقيّ الحياة.

وإذا كانت المنظمات الستّ التي شاركت في تنظيم هذا المؤتمر، قد قدمت خدمة جليلة للمجتمع الدولي بإصدارها هذه الوثيقة التي هي الأولى من نوعها، فإن المسؤولية الآن في تنفيذ ما ورد فيها من برامج وأنشطة، تقع على عاتق الحكومات من جهة، والمنظمات والمؤسسات الأهلية من جهة أخرى، باعتبار أن الحكم الرشيد الذي صار اليوم شعاراً دولياً ومطلباً إنسانياً عاجلاً، يقوم على أساس الشراكة في النهوض بأعباء التنمية بين الدولة وبين المؤسسات والهيئات والجمعيات الأهلية.

وعلى الرغم من أن المسؤولية يتحملها في المقام الأول الطرفان المشار إليهما، فإن المنظمات الست، وهي اليونسكو ومنظمة المؤتمر الإسلامي والإيسيسكو والأليكسو ومؤسسة أناليند الأورو ـ متوسطية للحوار بين الحضارات والمركز الدنماركي للثقافة والتنمية، ستواصل اهتمامها بهذا الموضوع الحيوي، كلٌّ في إطار اختصاصاته وفي حدود إمكانياته، وستُوالي اتصالاتها مع الأطراف المعنية بصورة مباشرة لحثّها على ترجمة نتائج هذا المؤتمر إلى واقع معاش، بحيث تندمج الشعوب جميعاً في الحوار الإنساني البنَّاء الذي يحقّق المصالح الحيوية لسكان هذا الكوكب الذين خلقهم اللَّه سبحانه وتعالى ليتعارفوا، وليتعايشوا، وليتحاوروا، وليتبادلوا المنافع، ويعمّروا الأرض ولا يفسدوا فيها.

ويتزامن هذا الانتقال من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق مع التحولات العميقة التي يشهدها العالم على صعيد العلاقات الدولية بصورة عامة، وعلاقات شمال ـ جنوب بصورة خاصة، وعلى إثر ظهور اتجاهات جديدة تمثّل في حقيقة الأمر، قوّةً ضاغطةً على مراكز اتخاذ القرار على مستوى السياسة الدولية، للدفع نحو ما يمكن أن نصفه بأَنْسَنَة القرارات الدولية كافة، وذلك بأن تطغى الروح الإنسانية على النشاط العام الذي يمسّ حياة الأمم والشعوب، وتهيمن على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إنْ على الصعيد الدولي، أو على الصعيد الإقليمي، أو على مستوى الدول منفردةً أو مجتمعةً. وهكذا ننتقل بالحوار من السجال الفكري إلى التحالف الحضاري المبدع.

* المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة

والأمين العام لاتحاد جامعات العالم الإسلامي.