من ينقذ دمشق الحسناء.. من دمشق الوحش

TT

أسير وعبق التاريخ يستقبلني في شارع الثورة بمدينة دمشق العامرة.. فيلمع فجأة في مخيلتي كالوميض اسم القصة الأسطورة (حسناء والوحش).. فعلى ضفة بردى اليمنى ترقد التكيّة السليمانية الحسناء منذ أن أمر السلطان العثماني (سليمان القانوني) بعمارتها سنة 1554م، فاستغرق بـناؤهـا ست سنوات على الأرض التي كـان يقوم عليها قصر (الظاهر بيبرس) المعروف باسم (قصر الأبلق).. وأقول إن التكية ترقد لأنها فقدت دورها الفاعل الذي بنيت من أجله، إذ كانت فيما مضى مأوى لطلاب العلم يقيمون فيها ويدرسون.

وفي عام 2004م شهق مقابل التكية بناء هائل بكتلة ثقيلة ومساحة شاسعة ليقف أمامها كالوحش.. حاملاً اسم (فندق الفصول الأربعة).. محاولاً خرق هوية المنطقة وطبيعتها البيئية والتاريخية والوطنية.. دونما احترام أو انسجام مع النسيج العمراني والثقافي والحضاري.. أو أدنى التزام بالمعايير العلمية المعمارية التي تفرض فهم المكان جغرافياً وتاريخياً...

هكذا ظننت أول الأمر كما الجميع.. لكن فندق الفصول الأربعة ليس خطأً معمارياً.. بل خطة استعمارية مقصودة.. إذ لم يكتف الوحش/الفندق باحتلال الضفة الأخرى لنهر بردى مقابل التكية بالذات.. بل ابتلع أثراً تاريخياً إسلامياً هاماً مسجلاً هو ضريح الأمير عزّ الدين فروخشاه ، فضم الأثر إليه بكل جرأة وتحد، حاملاً بذلك رسالة موجهة ومرفوضة.. آتية من الغرب.

إنّ الفرق الجوهري بين شرقنا والغرب.. أن لنا جذوراً حضارية ننتمي إليها ونفخر بها.. وما عماراتنا إلا أحد الشواهد على حضارتنا وثقافتنا الإسلامية.. وهذا لا يعني رفض التعرف على الآخرين.. بالعكس فما مثل الشام كانت ولا زالت تفتح ذراعيها للآخر وثقافته ـ مطلق آخر ـ لكننا لا شك نرفض أن يبتلعنا هذا الأخير بصورة قد تبدو حضارية.

وأرى من المناسب هنا أن أعرّف التكية في أسطر، إذ لاحظت أن كثيرين يجهلون شأنها، فالتكية السليمانية من تصميم المعماري التركي المعروف (سنان باشا)، مهندس عشرات الأبنية الهامة أيام الخلافة العثمانية. وهي أول بناء من هذا الطراز يشاد في سوريا، وتمتاز بقبتها الكبيرة والقباب الصغيرة وأنصاف القباب والزخارف البسيطة..

وتتألف التكية من عدة أقسام يضمها سور واحد بثلاثة أبواب في الغرب والشرق والشمال..، أما القسم الرئيسي فهو المسجد الذي يحتل الجهة الجنوبية بقبابه ومئذنتيه الاسطوانيتين الرشيقتين الشهيرتين اللتين تشبّهان بالمسلّتين أو قلمي الرصاص لشدة نحولهما..، وفي الجهتين الشرقية والغربية بناءان مستطيلان يتألفان من غرف صغيرة متجاورة أمامها رواق مسقوف بالقباب..، وفي الجهة الشمالية ـ وهي المتحف الحربي الآن ـ يقع المطعم والمطبخ والمستودعات...، وفي وسطها صحن كبير تتوسطه بحرة ويحيط بها حديقة.. ولكل قسم من الأقسام المذكورة حديقة خاصة به.. وقد خصصت الزاوية الجنوبية الغربية لتكون مدفناً للسلطان وحيد الدين وبعض شخصيات آل عثمان. وإلى جانب التكية السليمانية مدرسة قديمة تم بناؤها سنة 1566م في عهد الوالي لالا مصطفى باشا.

أربعمائة وخمسون عاماً تفصل بين تاريخ البنائين.. ومسافة شاسعة تباعد بينهما تفوق عرض النهر.. جعلتهما على خطين متوازيين لن يلتقيا قط.. ذاك هو الهدف من كل منهما.. فما كان مدرسة ومسجداً ومأوى للطلاب الأغراب يدوي في جنباته صوت العلم والقرآن الكريم.. لا يوضع أبداً في كفة مقابلة مع صرح أسمى مهامه تقديم الغرف للزائرين بأثمان باهظة أو تنظيم رحلات وسهرات وبعض من ضروب الترفيه..

وللأسف.. فإن الوحش هذه المرة لن ينقلب أميراً كما في الاسطورة.. لأنه لم يكن يوماً كذلك.. وحدها التكية السليمانية ستبقى حسناء إلى الأزل..

* كاتبة ومهندسة سورية