يحيا الشعر المنثور

TT

هذا انقلاب آخر في تفكيري. لا بد ان لاحظ القراء كرهي للشعر الحداثي بسائر الوانه. ولكنني الآن بدأت أفهم واجل مكانته. وهذا شيء غريب. فالمفروض ان يهوى الانسان الحداثة في صغره ثم يعود للتراث في كبره. ولكنني انسان عكوسي، افعل كل شيء بالمقلوب. كنت احتقر كرة القدم وكل من يلعبها في شبابي، وانا الآن اترك كل شيء من أجل التفرج على مبارياتها واعتبرها السبيل الوحيد لتعليم الشعوب العربية على احترام الوقت ودقة التوقيت الى حد الثانية. واكثر من ذلك تعلمهم على الديمقراطية والمساواة. فلضمان الفوز لا بد من تجاوز الفروق الطبقية والقبلية بين اللاعبين. الاعظم قدرة هو الذي يسجل الهدف ولا يستطيع الحكم ان يتجاهل ذلك الهدف لأن المهاجم ابن خبازة وحامي الهدف ابن وزير النفط.

وجدت شيئا مشابها في دنيا الشعر. وحملني ذلك الاكتشاف الى تصحيح موقفي تجاه الشعر المنثور. التفكير ليس من صفاتنا المعروفة. والحكيم عندنا يقول: «لا تفكر! لها مدبر!» وهذا طبعا من اسرار تخلفنا. الآخرون يفكرون ونحن نتشاءم من التفكير. ولكننا عندما نقرأ في الصفحة الادبية:

دخل القمر في اذن الحمار

قلت لها ما هذا التراب الارجواني؟

قالت في البحر سعلاة صغيرة

وكانت الريح قد أوت لسريرها

تقرأ ذلك فلا تملك غير ان تقف وتتساءل: ما هذا؟ هل انا مجنون أم الشاعر مجنون، أم انها غلطة مطبعية أخرى؟

هكذا تجد نفسك رغم نفسك قد دخلت في عملية تفكير لتحقق ما اذا كنت مجنونا ولم تعرف حقيقة جنونك. وهذا ما أقوله. الشعر الحداثي يعلم الانسان على التفكير. اين ذلك من قول المتنبي:

ولا تحسبن المجد زقا دقينة

فما المجد الا السيف والفتكة البكر

تقرأ ذلك فتفهمه فورا وتدرك ان الشاعر ارهابي من اتباع بن لادن. لا تحتاج لأي تأمل أو تفكير في الامر. ستقول هذا رجل سرعان ما يلحق به رجال المخابرات ويقومون بتصفيته. وهذا هو فعلا ما جرى لهذا الشاعر حالما دخل العراق.

الشعر العمودي الموزون والمقفى يعتمد في اثره على موسيقى التفاعيل وايقاع القافية. نستمتع به بهذه الصفة ولا نجهد دماغنا في تفسيره أو استيعاب ابعاده. وهو غير ما يقتضيه منا الشعر المنثور والاعمال الحداثية عموما. أهم من كل ذلك انه سيقرف القراء من الشعر ويصرف الجمهور العربي من هذا الهوس بالقريض. وهو من أول متطلبات النهوض والاصلاح العربي.