أين السهر والحمى؟!

TT

ما زلت أذكر قامته التي للتو بدأت تفاخر برجولتها، ووجه المحزون بالإنكسار والعار، كنت صغيرة وقتها، حين سمعت قريبي يحدث جدتي عن ضيفه قائلا: طرده أبوه، لأنه يدخن السجائر!، فجاء للرياض فارا من العار، باحثا عن مخرج!.

اختزنت ذاكرتي الفضولية صورة الشاب الحزين حتى كبرت، وشاهدت صورا مشابهة، صيحات هريدي في المسلسلات الصعيدية: اخرج من بيتي، قلبي غضبان عليك ليوم الدين!. هريدي أيضا يطرد ولده حين يحجم عن ملاحقة الثأر أو يرفض الزواج من ابنة عمه.

كل الأهالي في العائلات العربية يرفعون شعار غضبان عليك ليوم الدين، لا أنت ولدي ولا أعرفك!. مستغلين حق الغضب (الوالدي) الذي يجلد ظهر صاحبه ويمنع عنه الهناءة والتوفيق، كصخرة سيزيف على ظهره ـ في الاسطورة الأغريقية ـ كلما وصل بها أعلى الجبل عادت به للسفح.

آباء بعض الإرهابيين الصغار أيضا يظهرون بعد غياب لا مسؤول عن ابنائهم طوال سنوات، في الصور مشهرين البراءة ذاتها (لا هو ابني ولا أعرفه) نحن ابرياء من فعلتهم، يفعل هذا البيان سحره الاجتماعي، يرفع الأب رأسه بعده بين الناس ويسامحه المجتمع، لن يعاود أحد لومه.

كلنا تنفسنا الصعداء عندما صرح بلير بعد حادثة تفجير لندن قائلا: الإسلام بريء من افعال هؤلاء الإرهابيين، مستفيدا من حماقة بوش الذي ما صدّق خبرا وركب فرسه صائحا: الحرب الحرب، نريدها صليبية من جديد!. المحللون والكتاب المسلمون المحافظون والليبراليون والقوميون، يسعون أيضا لإعلان براءة الإسلام من كل فعل إرهابي الفكر والفعل.

لم نعد نعرف من هو الصادق، ومن المجامل، ومن المحتال، كيف نتبرأ من ذاتنا ومن أجزاء فينا من دون تحمل مسؤولية علاجها ومداواتها، فهي إما اعتراها عارضٌ وواجبنا مساعدتها، او أننا أهملناها فأصابها ما أصابها وعلنيا القيام بمسؤوليتنا تجاهها. وما البتر والبراءة واللعن إلا موقف سطحي أناني متهرب من واجباته، مثله تماما مثل موقف إلقاء اللوم على الآخر وتحميله المسؤولية!!.

هل هذه البرءاة المعلنة براءة مسؤولة عاقلة تستفيد من التجارب وتعالج شططها؟. أم أنها «مسح جوخ» للضمير ليهدأ ويقول خلصت ثاري وطفيت ناري؟. هل نتتبع اثر الخرق الذي يسبب سيل ماء القربة على ظهورنا فنفقد الماء والكرامة؟. هل تعني مراجعة للكم والغثاء الذي يجلس إليه الإرهابيون ويراجعون دروسهم ويحفظونه ويبايعون شيوخهم عليه بالموت فداء له؟. أم أنها كلمة على طرف اللسان لإرضاء الجمهور والنفس اللوامة؟!.

من نتبرى منهم هم أبناؤنا، فلذات اكبادنا، ليس كما في إعلان الحليب، قص ولزق، بل كما قال عنهم (الرومي) وهو يتفجع على واسطة العقد من ابنائه، ووجع في جسدنا وصفته الحكمة المحمدية التي قال عليها افضل البشر: «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

فأين السهر والحمى؟!.

[email protected]