لـحود وعـون و «حلـوى السنيـورة»

TT

في لبنان أزمة حكم أم أزمة حكومة؟

لا هذا، ولا ذاك. انها أزمة مبادئ. كتل نيابية ضخمة بلا مناهج وبرامج سياسية! علامَ يختلفون إذن؟ في غياب المبادئ، يختلفون على توزير الأشخاص في إطار لعبة الكراسي الموسيقية، لعبة الحصص (المحاصصة) الطائفية البغيضة.

تاريخيا، لم يكن تشكيل الحكومة في لبنان أمرا صعبا. كان رئيس الجمهورية الماروني يضع طربوشا على رأس شخصية سنية، ويختار له معظم وزرائه. اتفاق الطائف (1989) أسند إلى مجلس النواب عملية ترشيح الطربوش السني الحائز على رضا أغلبية الكتل. يبقى على رئيس الجمهورية أن يختار وزراء طائفته، واصدار مرسوم تشكيل الحكومة.

في التسعينات، رفض رفيق الحريري أن يكون طربوشا. سارت الأمور هينة لينة. فقد كان الياس الهراوي رئيسا «قبضاي» وطيبا. إذا اختلت الطرابيش، تدخلت العصا السحرية السورية لإعادة التوازن بين الهراوي والحريري.

في نهاية التمديد للهراوي، حاول الحريري التمديد ثانية له، أو تركيب طربوش «الفخامة» على رأس جان عبيد. لكن السوريين رجحوا كفة رئيس عسكري قوي. كان على العصا السحرية أن تتدخل مرارا وتكرارا. فقد كان الانسجام مفقودا أصلا بين الحريري والرئيس إميل لحود منذ أن كان قائدا للجيش. عندما أصبح العماد فخامة الرئيس، ارتدى الخلاف طابعا منهجيا حول الإدارة والإصلاح والاقتصاد.

مع اشتداد الضغط الأميركي على سورية، ضاقت العصا السحرية ذرعا بالخلاف المستحكم بين الرئيسين، فرجّحت كفة لحود بالتمديد له، وأقصت الحريري صاحب الأغلبية البرلمانية. بعد مسح الدموع بالمناديل «على الذي جرى» من احداث واغتيالات، طرأت على المشهد اللبناني متغيرات ضخمة:

فازت المعارضة السنية ـ المسيحية ـ الدرزية بأغلبية الثلثين في الانتخابات، فيما دخل العماد المبعد ميشال عون على المسرح، ليحتل «الثلث» الثالث، بحيث يكاد يكون «البطل» الأوحد للجمهور المسيحي، في حين انسحبت العصا السحرية السورية، لتلعب من وراء الحدود دور عصا «المايسترو» في الحلف الصامت مع لحود وعون، ضد الأغلبية الحريرية.

عون الذي يقدم نفسه صاحب البرنامج السياسي الوحيد بين اللاعبين، يلعب دورا في غاية الدهاء والاتقان. في ظني، أن الرجل يهيئ نفسه لخلافة لحود، شاريا في صمته الرضا السوري عنه، وسامحا للحود بأن يراهن عليه كـ «حصان طروادة» داخل حكومة الأغلبية البرلمانية، إذا اضطر إلى توقيع مرسوم تشكيلها. من هنا تصوير عون «المعادي» لمشروع حكومة السنيورة بأنه «شركة تحكم بأكثرية الأسهم» وهي لذلك «أكثرية فاسدة»!

مسكين السنيورة! انه سنيور الأغلبية المكلف بالتأليف والعاجز عن التشكيل. إن أرضى لحود أزعج الأكثرية. إن أدخل عون عتب عليه الساسة المسيحيون الذين «مسحهم» الجنرال العائد في حرب الانتخابات. إن أرضى الشيعة بوزارة الخارجية، أثار غضب شيراك وبوش المطالبين بتجريد «حزب الله» من السلاح. إن أصر على حكم الأكثرية، تحركت ضده العصا السحرية. وها هي فعلا منعت أساطيل الشاحنات اللبنانية من المرور عبر الحدود. والطبقة التجارية والصناعية اللبنانية تنتظر من السنيورة أن يقدم «التنازلات» لدمشق.

أقول بصراحة النصيحة للسوريين إنهم يرتكبون خطأ قوميا كبيرا بمنع لبنان من عبور الحدود. السياسة السورية تقلد «تقية» السياسة الإيرانية في التناقض بين السياسة المعلنة والممارسة الميدانية. سورية مع الشعب اللبناني «الشقيق» علنا، ومع خنق تجارته ميدانيا!

نعم، الأمن السوري يحتل الاعتبار الأول لدى نظام بشار الآن، لكن تعطيل الشاحنات بحجة تفتيشها لا تفسير لبنانيا له سوى محاولة «تفشيل» السنيورة. بالإمكان، تسيير الشاحنات بلا تفتيش، في قوافل بحراسة عسكرية وأمنية سورية، كل قافلة إلى البلد الذي تقصده (الأردن. العراق. تركيا).

أعود إلى السنيورة، لأقول إن عرقلة شاحنته عن الوصول إلى سراي الحكومة يرجع إلى عدم ثقة لحود به، لا سيما بعدما عاد الأخير فاسترد الاعتبار، ودعم رئاسته ودوره بحلف عون معه، وبرفض البطريرك صفير لإقالته أو عزله، خوفا من حدوث فراغ «ماروني» في قمة السلطة. مشكلة السنيورة تكمن في هشاشة حلف الأكثرية، وما لم يستطع سعد الحريري وضع «مانيفستو» سياسي يبلور رؤيتها «الموحدة» لحاضر ومستقبل لبنان سياسيا واقتصاديا، فستظل الأغلبية موزعة على طيف سياسي لا تجمع بين ألوانه سوى ظروف مأساة اغتيال والده، وردة الفعل العنيفة السنية والمسيحية ضد سورية.

معظم العرب واللبنانيين يعتبرون السنيورة دخيلاً غشيماً على السياسة. وأحاول تبديد الخطأ الشائع، بالإشارة إلى أن السنيورة بدأ حياته السياسية باكرا جدا كعضو عامل في «حركة القوميين العرب» مع ابن آخر لمدينته صيدا اسمه رفيق الحريري، إلا أن الحريري لم يكتشف السنيورة إلا متأخرا، بعدما أصبح السنيورة رئيسا لجهاز الرقابة على المصارف في المصرف المركزي اللبناني. انه سليم الحص استاذ السنيورة «الاقتصادي» ومكتشفه، وهو الذي دفعه في أروقة السلطة المالية والاقتصادية. ثم أعاد الحريري اكتشاف مواهب السنيورة، وجعله ذراعه اليمنى في إدارة شركاته، ثم في إدارة السياسات المالية والاقتصادية لحكوماته.

الشكوك الرئاسية في السنيورة ربما ترجع إلى التخوف من انتهاجه سياسة الحريري الراحل في اعتماد القروض الدولية والعربية لتغطية العجز المريع في الميزانية، بعدما حال نظام «المحاصصة» الطائفية والوزارية، دون الحريري وإصلاح الجهاز الإداري الذي أغرقه بالعجز والفساد، وطوفان توظيف شيعة «أمل» في الدولة، والعجز عن جباية الضرائب والرسوم.

أقول إن السنيورة حقا مسكين! رحلة المال أبعدته مع صديقه الحريري عن رحلة الآيديولوجيا. هو اليوم سياسي أكثر تجربة وحصافة ومهاودة، وأقل حركة وطموحا. رجل لا وقت لديه: هو في لهفة انتظار توقيع مرسوم حكومته، ربما ليسلمها في موعد قريب أو بعيد للابن الوارث الأصلي.

رجل عادي في ظروف استثنائية. يريد فرض حكم الأغلبية العددية في بلد محكوم بفن المساومة والتسوية. إن نجح في التشكيل أجل التفكير بالحلول الفيدرالية المتشائمة. إن أصبح رئيسا للحكومة كان عليه التفكير بالحلول الصعبة لمشاكل مؤلمة: تأجيل حلم محمود عباس بالتجنيس الذي سيقلب، إن حصل، التوازن الطائفي المهزوز أصلا، بإضافة نصف مليون سني فلسطيني إلى نحو مليون سني لبناني. ثم فرض سلطة المؤسسة السياسية على أجهزة أمنية فالتة، إن تم التخلص من قادتها، فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تسريح ضباطها الذين نشأوا على مزاجية التعاون مع العصا السحرية، وباتوا الآن في مهب رياح لعبة المخابرات الإقليمية والدولية التي تكتسح أرضا خطرة مليئة بالمتفجرات والسيارات المفخخة.

أكتب هذه الكلمات يوم الأحد، بعيدا عن متاهة أدب الأزمات الحكومية المراق بغزارة في الصحافة اللبنانية، وأنا لا أدري ما إذا كان سليل أسرة «حلوى السنيورة» التي انطلقت يوما من حماة إلى مدن سورية ولبنان، قادراً على استصدار مرسوم تشكيل حكومته من رئيس صعب، أم أن هناك مخططا لإحراجه بتعجيزه وإخراجه؟

في «حلوى السنيورة» صنف لذيذ اسمه «كلْ واشكرْ». هل يأكل السنيورة ويتذوق حلاوة الحكم؟ أم يشكر وينصرف؟ وإذا شكر وانصرف، فماذا يأكل لبنان؟