الجعفري في عين العاصفة الأمنية

TT

تفضح التفجيرات في العراق العجز التام للدولة الأقوى في العالم في البلد الأضعف في العالم اليوم. ولعل هذا ما دفع أكثر من 100 من أعضاء الجمعية الوطنية لتقديم مذكرة تدعو لانسحاب القوات الأجنبية. وتتزايد الأصوات المطالبة بالانسحاب حتى بين الأحزاب والحركات التي يقودها حلفاء الولايات المتحدة في الطبقة السياسية الجديدة، شخصيات مثل علاوي وجلبي. بل إن تقريراً صحافياً نشر في «الميل» الإنجليزية قبل تفجيرات لندن، أشار إلى مذكرة سرية موجهة لرئيس الوزراء البريطاني ، تكشف عن خطط أميركية لخفض عميق في القوات الأجنبية من 160 إلى 66 ألفا.

بمعنى آخر، فإن حكمة جديدة آخذة بالتشكل، مفادها أن الانسحاب يمثل الاستجابة الضرورية لمواجهة التزايد المفجع في عمليات التفجير والتدمير التي تطال بالدرجة الأولى المدنيين العراقيين.

بإزاء هذه الحكمة تقف حكمة أخرى تقول ان أي انسحاب سيعطي الإشارة الخطأ للقوى التي تقود العنف في العراق، وان الديمقراطية الوليدة في بغداد وهي لما تكمل شهرها الثالث مهددة بالإجهاض. والأفظع بأن حرباً أهلية لا تبقي ولا تذر سوف تفتت العراق إلى جمهوريات مستقلة إثنية كردية وسنية وشيعية، ومن يدري؟ ربما أيضا آشورية وتركمانية...

نحن بين ناري حكمتين أحلاهما مرّ علقم، فأين المسار لخمسة وعشرين مليون عراقي لم يعرفوا في حياتهم إلا الحروب والخراب؟.

اكتمل عامان وأربعة أشهر على الإطاحة بنظام صدام حسين، ومورست عدة تجارب سياسية لم تفلح جميعها في التصدي لواجب توفير الأمن للإنسان العراقي. وبالقياس على ما سبق، فإن الحكومة المقبلة بعد إقرار الدستور الجديد، سوف تذهب بالبلاد باتجاه الصومال، بلد تتدهور فيه الحضارة التي هو أحد مخترعيها، ليتحول إلى غابة وحشية تنعم فيه الطبقة السياسية بأمن ما في المنطقة الخضراء، بينما سواد الشعب تتناقص أعداده بالقتل والجوع...

الذي يجهله الأميركيون، ومعهم البريطانيون الذين كانوا يمتلكون عمقا أكبر في فهم ظواهرنا السياسية، اننا جميعا كعرب ومسلمين رضعنا منذ الطفولة كراهية أن يأتي غريب لأرضنا بغير صورة الحاج والتاجر وطالب العلم... خصوصاً من يأتي حاملاً سيفاً أو بندقية. تعلمنا جميعا أن الوطن كالعرض يطاله العار إن وطأته أقدام أجنبي. نحن كائنات جغرافية ولسنا نفهم إلا شيئا واحدا: ان بقاء الغريب حامل السلاح على أرضنا هو إهانة دائمة لا يغسلها إلا أن نطرده منها.

بعد أن أسقط الأميركيون النظام السابق أخذوا يتصرفون وكأن العراق هي كاليفورنيا، لكن من دون أميركيين يملكون حقوقا، وبدلا من أن يحترموا نظاماً دولياً تكرس نجاحه لأكثر من 350 عاما منذ معاهدة ويستفاليا تعاملوا مع العراق كحقل للهندسة السياسية. فمن جيش يفكك ويسرح أفراده إلى دستور وقوانين تلغى بجرة قلم وتستبدل بنظم لا علاقة للعراقيين بصياغتها... إلى مشاريع تقرر وترسي لشركات دون أي ضوابط أو رقابة.

إلى هذه اللحظة لا تزال الإدارة الأميركية عاجزة عن الاستيعاب. فبدلاً من الامتنان لتحريرها العراقيين من مظالم حكم دموي، فهي لا ترى سوى الجحود والعنف في وجهها. هذه الإدارة لا تفهم شيئاً بديهيا: أنني سأكون ممتنا لك كثيراً إذا أنت اقتحمت باب بيتي لتنقذني من حريق، لكنني لا أرضى أن تبقى لحظة واحدة في هذا البيت بعد ذلك، حتى لو تبرعت بغسل الصحون وتنظيف السجاد. أريدك أن ترحل، ليس لأنني ناكر جميل مساعدتك، بل لأنك صرت في حرمي، في جغرافيتي المباشرة، لقد تغلغلت في ملابسي الداخلية... لكل هذا عليك أن تخرج وبسرعة.

الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما هم عفشٌ زائدٌ في الساحة العراقية; وجودهم يشوّه استحقاقات الصراع الفعلية بين القوى الديمقراطية التي تريد أن تشق طريق الحرية للشعب العراقي، وبين الغريزة الجغرافية التي لا ترى إلا احتلالاً أجنبيا.

ليتركوا العراقيين لأنفسهم وهم في المحك المباشر سيثبتون إن كانوا يستحقون فعلا أن يحكموا أنفسهم أو أن ينصبوا الزرقاوي أميراً عليهم. دعوا العراقيين يحاورون القوى السياسية التي تحتضن العنف. دعوهم يمارسون التفاوض بكافة ألوانه بقصد بناء توافقية سياسية وطنية ما.

الحكم أساساً هو تحقيق الأمن، والذي تبنى عليه كل الأنشطة الأخرى.

من الواضح أن حكومة الجعفري والبرلمان الذي تنطلق منه كأساس للشرعية، كل هذه المؤسسات والشخصيات منتقصة بالكامل بسبب قيام الأميركيين والبريطانيين بالدور الأساس في حقل الأمن.

فليس يكفي أن يصل حاكم بالاقتراع كما وصل الجعفري، لكن عليه أن يثبت أهليته بالانطلاق في عين العاصفة الأمنية، في حل أسئلتها وفهم خباياها وتلبية استحقاقاتها. وحين يفشل الحاكم في أداء الدور تنتفي عنه صفة الحكم ويصبح إنسانا فاضلاً، ثائراً مناضلاً، معارضاً نزيهاً، أي شيء إلا أن يكون حاكما.

والخيار أمسى واضحا: إما أن يواجه من انتخبهم العراقيون عبء الأمن بأنفسهم، وإلا فهم ليسو أكثر من ديكور شكلي محلي يخفي حقيقة أن العراق ـ وبرغم توجه 8 ملايين عراقي لصناديق الاقتراع ـ لا يزال تحت الاحتلال.

هل يتجزأ العراق إلى كيانات؟ قد يحدث، لكن كيانات مجزأة لا يموت فيها أحد أرحم من عراق موحد يموت فيه الجميع؟

هل ستحل الحرب الأهلية ويقتل العراقيون بعضهم بعضا بعد رحيل الأميركيين؟ ربما، لكن أوليست الحال اليوم ولأكثر من عامين حرباً أهلية؟ على الأقل برحيل الأميركيين وحلفائهم ستنهار دعاوى الزرقاويين والصداميين من أنهم يقاتلون احتلالاً أجنبيا ومعه ستمتلك المؤسسات العراقية الوليدة الفرصة لإثبات قدرتها على أداء دورها الأول الذي صادره الأميركيون عنها.

وحتى لو فشلت ـ لا قدر الله ـ هذه المؤسسات، فهذه ليست نهاية العراق، فهي تعني أن العراقيين حتى لو كانوا ليسوا مستعدين للحرية، فإنهم على الأقل يريدون الحياة.