حكاية عباس وحماس

TT

حين كان مفاوضا.. وحين اصبح رئيسا للوزراء.. وها هو الآن رئيسا للمنظمة والسلطة.. حرص محمود عباس، على اقامة علاقات متوازنة مع الفصائل الفلسطينية جميعا.. وحين بدأ الاستعداد للعودة الى الوطن، اجرى العديد من الحوارات المستفيضة مع قادة الفصائل الرافضة لاوسلو، حاثا اياهم على العودة، مع الاحتفاظ بالموقف الرافض. وفيما يتصل بحماس، فقد وضع الرجل. هذا الفصيل المهم في حساباته كمشروع شراكة سياسية. وحاول تنفيذ هذه الفكرة الجريئة. حين اصبح رئيسا للوزراء. وللحق.. فإن رجل اوسلو، واجه انتقادات حادة، ومن جهات شديدة التأثير في الحياة السياسية الفلسطينية، ذلك ان اتجاها كهذا.. لن يقبل من جانب الاميركيين والاسرائيليين. وبديهي ان يلقى تحفظات من جانب اوساط معينة في فتح. إلا أن عباس، ظل مصمما على فكرته، وتمكن من اقناع الاميركيين بها وبحكم الأمر الواقع، جعل الاسرائيليين يتعايشون معها، وإن على مضض. ونجح عباس، ولو الى أمد قصير، في تعزيز فكرة التعايش مع حماس بالهدنة الاولى، التي وفرت لحكومته آنذاك، اقلاعا آمنا نحو محاولة تنفيذ باقي بنود اجندته السياسية، التي تسير باتجاهين متوازيين، الاول: اعادة الحياة الى المسار السياسي التفاوضي مع الاسرائيليين، والثاني: اطلاق اوسع عملية اصلاح داخلي تشمل كافة نواحي الحياة الفلسطينية. وفي ذلك الحين، تعاونت حماس مع عباس.. على قاعدة تبادلية عادلة في المنافع بين الجانبين.. فحماس.. اعطت الهدنة، وعباس اعطى الشراكة. ودخل الحليفان الموضوعيان في مرحلة زاهية لا اغالي لو وصفتها بـ «شهر العسل». كانت معادلة ابي مازن، تشبه قصر سنمار الشهير، فيه حجر لو نزع من مكانه لانهار كل شيء، كان من يعرف الحجر جيدا هو ارئيل شارون، وحين وصلت حساباته السياسية، حد الاطاحة بحكومة عباس، صاحبة الحظوة الزائدة عند البيت الابيض، سحب الحجر السحري، واهال البناء على صاحبه، فاندثرت حكومة عباس، وقوضت كل الآمال والأحلام التي بنيت عليها. كان بديل انهيار حكومة عباس، هو اشتعال للوضع الأمني في اسرائيل ومناطق السلطة، وتراجع غير مسبوق في فرص استعادة المسار التفاوضي. ونزيف من الدم فاق كل ما كان قبله. ورغم ذلك، لم يقترب محمود عباس من حماس منتقدا او متذمرا، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، فلقد كان مدركا للمعادلة الحقيقية التي اطاحت بحكومته، واهم عناصر المعادلة رغبة شارون في التخلص منه، ودعم قدرة الاميركيين على المساعدة من دون إلغاء العوامل الفلسطينية، التي مهما بدت واضحة، إلا أنها تحتل المرئية الثالثة في التأثير. ورغم ابتعاده عن دائرة الضوء، عقب انهيار حكومته، ظل عباس محتفظا بعلاقاته الوطيدة مع قادة حماس. سواء من هم في الوطن او المنافي.. ولقد راكم رصيدا من الثقة المتبادلة. وجده حين اعادته الاقدار الى بؤر الضوء.. وهذه المرة رئيسا للجميع وليس مجرد رئيس للوزراء. لم يغير ابو مازن اتجاهه نحو حماس تحديدا، وعاد مرة اخرى الى الحوار، لتحقيق فكرته القديمة. وبكل ما لديه من قدرة على الصبر والمثابرة، توصل اخيرا، وبجهد مصري مضن، الى بعث الحياة في معادلته الصعبة «هدنة.. ومشاركة». وللحق، فإن هذه المعادلة، صمدت لعدة اشهر، كان شارون خلالها، يشكل تهديدا يوميا لها، عبر سلوك بدا مستهجنا حتى لاقرب اصدقاء اسرائيل، الذين نقدوا انفسهم ذاتيا لسماحهم بالاطاحة بحكومة ابو مازن، ورأوا في الضغط على شارون تعويضا على ذلك التقصير.. واعادوا فتح ابواب البيت الابيض امام الرجل الجريح!. في هذا السياق، لم تهدر حماس فرصة الهدنة، وعملت على الافادة منها الى اقصى حد، فلقد خرج قادتها وكوادرها المهددون بالاغتيال الى العلن، وراحوا يعملون بحرية. لتعزيز المواقع، وتطوير النفوذ، فحققوا انجازات ملفتة على صعيد انتخابات المجالس المحلية، ولولا تعثر رفح فيها لمضت المسيرة في اتجاهها السليم. والى جانب ذلك، اظهرت حماس حرصها على المشاركة في منظمة التحرير، وما هو ابعد من ذلك.. السلطة.. عبر المجلس التشريعي.. وبدأ الافصاح عن حوارات تجري مع الاوروبيين والاميركيين، ورغم ما يحمل هذا الاتجاه من تهديد جدي لنفوذ فتح التقليدي، واحتكارها للسلطة والقرار، إلا ان عباس واصل تشجيعه لحماس، وترحيبه بالاشارات القوية التي صدرت عنها نحو مزيد من الواقعية السياسية، معتبرا ذلك واحدا من انجازاته الجوهرية، التي تستحق البناء عليها للمستقبل وليس لمجرد حماية الهدنة. غير ان ما يبدو ايجابيا وبنّاء في وقت ما، وظرف ما، قد يتحول الى العكس في وقت آخر، وظرف آخر. وهنا لا مناص من الاشارة صراحة الى الاهتزازات الخفية، التي نشأت في سياق او تحت سطح العلاقة التحالفية. كانت المخاوف من تقدم حماس في العديد من المجالس المحلية، قد تطورت لتصبح ـ فوبيا ـ او عقدة تتحكم بالعقل السياسي المتعاطي مع الشأن الفلسطيني ـ الاسرائيلي. وذهبت معظم التقديرات، الى ان حماس سوف تواصل تقدمها. لتستولي على النظام بأكمله، وبدأت تطرح اسئلة من نوع: ماذا لو حصلت حماس على اغلبية مقاعد التشريعي؟ ماذا سيفعل عباس في حالة كهذه؟ وما هو رد فعل فتح؟ وكيف سيتصرف الاميركيون والاسرائيليون والاوروبيون؟.. وزاد من الايقاع العملي لهذه المخاوف، تسرب انباء عن لقاءات اميركية مع حماس، واخرى اوروبية، ولقد تمت تغذية هذه الايقاعات، بتصريحات مباشرة من قِبل قادة حماس، لم تكن كسابقتها، تعكس زهدا بالسلطة، إنما استعدادا لممارستها. كل ذلك، كان يقابل من جانب محمود عباس، بقدر كبير من التفهم، بل انه تحمل انتقادات اقرب الاقربين اليه، حين اسمعوه بأن ما تم بعد رحيل عرفات، ليس انتقالا سلسا للسلطة من يد فتح اليمنى الى يدها اليسرى، إنما انتقال متسارع لها نحو حماس!!. وتحمل كذلك، ابتزاز شارون الذي برر احجامه عن تقديم اي شيء جدي لعباس، بتعاظم نفوذ حماس واحتمالات استيلائها على السلطة. كان عباس، متفهما تماما لكل ما يحيط به، مدركا لحقيقة ان مهاودة حماس، اقل خطرا من الصدام معها، وكان بأمل في ان تبادله نفس التقدير، وان تساعده بابتلاع الاستفزازات الشارونية المدروسة، وان تنفذ بندا جوهريا من بنود التفاهم وهو التشاور قبل اتخاذ اي خطوة للرد على الاستفزازات الاسرائيلية. ولقد فوجئ عباس، حين بلغ انتقاد حماس له، حد اعلان احد قادتها سحب الثقة منه، وحسنا فعل حين لم يعلق.. إلا انه لن يكون قادرا بالتأكيد على ابتلاع الموجة الأخيرة من التصعيد.. التي بكل أسف، اسفرت عن سقوط شهداء وجرحى. واسفرت كذلك، عن مطالبة صريحة بإقالة وزير الداخلية، ولم تتوقف عند خطاب اعلامي، فيه قدر كبير من الاحراج لحليف حماس على رأس السلطة. ووفق حسابات ابو مازن، فإن بلوغ الأمور هذا الحد، قبيل اسابيع قليلة من الانسحاب الاسرئيلي من غزة، فيه نوع من تحطيم مكانته وهيبته، وفيه تقويض لكل الرهانات الدولية عليه، كرئيس تم انتخابه من اجل اعادة الحياة للمسار السياسي وتهيئة الامكانات الفعلية لقيام الدولة الفلسطينية. لقد دفع محمود عباس، أثمانا باهظة، لقاء حرصه على ألا تضطر السلطة لمواجهة من اي نوع مع حماس، ولا جدال في ان عباس، غير نادم على ما فعل وما دفع، بل انه غير مخطئ في مواصلة هذا الاتجاه، وخدمته وتحويله إلى سياسة وطنية. غير انه وهو في هذا الوضع، لن يستطيع فعل شيء جدي، ما لم يحظ بتقدير مختلف من جانب حماس، وأعني بالتقدير المختلف التعامل معه كرئيس للجميع، وليس كطرف ما ان يلبي طلبا، حتى يطالب بتلبية آخر. ومع ان لحماس الكثير الكثير من الطلبات المحقة، خاصة على صعيد كيفية المشاركة في القرار والاطارات وغيرهما.. إلا ان مصلحة حماس كتشكيل وطني، تتطلب عدم حشر عباس في الزاوية، وعدم اظهاره امام العالم، كرجل تهان سلطته وادواتها دون ان يقوى على فعل شيء. لقد استمعت الى خطاب ابي مازن، ورغم مستوى المكابرة فيه، إلا ان ما بين السطور يظهر حسرة ومرارة ولغة اضطرارية ما كان يرغب في استخدامها. لقد لجأ عباس الى الشارع الذي انتخبه، دون استخدام العبارة الشهيرة «اللهم بلغت اللهم فاشهد». وبعد هذا الخطاب.. ننتظر مبادرة من حماس، مبادرة تقول فيها صراحة إنها ستدعم عباس، ستؤجل الخلافات الى ظرف نستطيع كفلسطينيين ممارستها وتحمل نتائجها.. وستواصل وئامها الثمين مع ابو مازن. من اجل كسب معركة انسحاب شارون من غزة، ومن اجل مضمون اعمق وارقى واعني به.. ألا تكون جرائم شارون هي عامل وقف النار بين الاشقاء.. بل العامل الاهم هو مصلحة فلسطين.. الدولة العتيدة والشعب المثخن بالجراح والألم.. والأمل.

* وزير الإعلام الفلسطيني السابق